حملات تشويه النساء.. هل انتهى الخطر؟
ضمن الحملات الممنهجة لإقصاء الأصوات المعارضة خلال حكم الأسد، تعرّضت الناشطات دون غيرهنّ إلى حملات تشويه مضاعفة لمنعهن من لعب دور سياسيّ مستقلّ
تمام صيموعة – لارا عيزوقي
في المشهد السياسي والاجتماعي السوري خلال حكم الأسد، لم يكن استهداف الناشطات أمرًا طارئًا أو عابرًا، بل كان جزءًا من منظومة أوسع لإقصاء الأصوات المعارضة، خاصة النسائية منها. النيران أو الاعتقالات المباشرة لم تكن الأدوات الوحيدة المستخدمة، بل برزت حملات التشهير كوسيلة أشد خطورة، تحوّل الناشطة من فاعلة في الحراك إلى متّهمة أمام مجتمعها. هدفت هذه الحملات الوهمية إلى ما هو أكثر من إسكات النساء فحسب، إنّما سعت لضرب مصداقية الحركة الاحتجاجية نفسها، وإعادة فرض أنماط اجتماعية تمنع المرأة من لعب دور سياسي مستقلّ فيها. في هذا المقال، نتتبع الحملات التشهيرية الإلكترونية التي طالت الناشطات في دمشق، ومحافظة السويداء، بعد الحراك الذي انطلق في شهر آب (أغسطس) 2023.
بداية الهجوم في السويداء
بعد أشهرٍ عدّة من الاعتصام السلمي الذي انطلق في شهر آب (أغسطس) عام 2023 للمطالبة بالتغيير السياسي في ساحة الكرامة، وسط مدينة السويداء جنوب سوريا، بدأ يتسلّل شعور بأن شيئًا ما قد تغير. الفرح والغضب اللذان ملآ الساحة تحوّلا تدريجيًا إلى قلقٍ وحذر. الحديث أصبح أقل حماسًا، والكلمات صارت تُنتقى بعناية.
سبب هذا التغيير المفاجئ، كان حملة تشويه إلكترونيّة، استهدفت بشكل رئيسي النساء المشاركات في الاحتجاجات. لجأت هذه الحملات إلى نشر صور وأسماء الناشطات، مرفقة بإهانات مباشرة. لهذا كان لهذه الحملة تأثيرًا يتجاوز الإساءة اللفظيّة المباشرة، خصوصًا داخل مجتمع السويداء المحافظ الذي تحظى فيه سمعة المرأة بحساسية كبيرة. من وقف وراء هذه الحملات؟ وما الهدف الحقيقي من محاولة إقصاء النساء عن المشهد الاحتجاجي؟ يستعرض هذا التحقيق تفاصيل استهداف الناشطات، والأثر الذي تركته تلك الحملة على الناشطات والمجتمع.
ألسنة الجنرالات الوهميّة
بالتزامن مع هذه الحملات التشهيرية، بدأ الجوّ العام يتغيّر، والخوف من المجهول بات يسيطر على الساحة، وتسلّل شعور بأنّ مرحلة جديدة من القمع قد بدأت، وأنّ حملات التشهير التي استهدفت الناشطات لم تكن سوى بداية لتصعيد أمني أشدّ تأثيرًا.
منذ أيّامها الأولى، استهدفت حملة تشهير إلكترونية ناشطات السويداء في بداية آذار (مارس) 2024، عبر صفحات فيسبوكية تتصدّرها صور الرئيس الأسد وجنرلاته، مردّدة رواية مطابقة لرواية النظام السابق. نشرت هذه الحسابات صور وأسماء الناشطات، مرفقة باتهامات وشتائم، كانت أبرزها حسابات بأسماء مثل “السويداء دقيقة بدقيقة”، و”السويداء على حافة الهاوية”.
تتبّعنا أحد هذه الحسابات الوهميّة، وأشهرها يحمل اسم “جاد اسماعيل”، تمّ تأسيسه في آذار (مارس) 2024. لم ينشر المستخدم أي صورة شخصية له، بل وضع صورة أحد جنرالات النظام السابق عصام زهر الدين، الذي طالته العقوبات الغربية، وقتل في الحرب عام 2017.

في سياق بحثنا، جمعنا 50 منشورًا طالت النساء في الفترة الممتدّة بين شهري آذار (مارس) وأيار (مايو) عام 2024، وأجرينا تحليل مضمون لفظي لما كانت تتعرض له النساء.

ولفهم أبعاد حملات التشهير التي استهدفت الناشطات والمحتجّين، كان لا بد من دراسة محتواها اللفظي. استخدم فريقنا أداة “Word Cloud” لجمع عيّنات من 50 منشور، وقد سمح هذا التحليل لنا برصد الكلمات المفتاحية المتكرّرة التي شكلت عصب التشهير الرقمي. عند مراجعة النتائج، لاحظنا أن مصطلحات مثل “عمالة” و”خيانة” كانت تتصدر المشهد، في محاولة منهجية لتصوير الحراك في السويداء على أنه مدعوم من قوى خارجية مثل الولايات المتحدة وإسرائيل.
كان تكرار هذه المصطلحات في النصوص الإلكترونية يشير بوضوح إلى وجود سردية منظمة تهدف إلى تقويض شرعية الحراك وتحويله إلى “مؤامرة خارجية”، تترافق مع أوصاف ساخرة ومهينة تطال النساء مثل “الأرملة السوداء” و”الملقبة أوتوستراد”، مما يزيد من وطأة التشهير والتقليل من قيمة الحراك والناشطات على حد سواء.
عيون الفيسبوك تسيطر على الطرقات
في زاوية هادئة من أحد مقاهي المدينة، التقينا ديما (26 سنة) في التاسع من آب (أغسطس) الماضي. الناشطة المدنية التي كانت من أوائل المستجيبين لدعوات اعتصام آب عام 2023، لم تعد تجد في الأماكن العامة ملاذًا آمنًا كما في السابق. شبح الخوف كان يرافقها في كل خطوة؛ الخوف من أن تُلتقط لها صورة أخرى، تُكتب تحتها تعليقات مسمومة، أو تُستخدم ضدها في واحدة من حملات التشهير التي تستهدفها. بحسب ديما، لا يوجد وقت محدد للتشويه، فعندما تسنح الفرصة، ينشر الذباب الإلكتروني الشائعات والكلام المسيء ضدّها بسبب موقفها السياسي من النظام السابق. بعدها تقوم هذه الحسابات الوهمية بنشرها في مجموعات الفيسبوك المفتوحة وتنقلها الصفحات الناطقة بلسان النظام والتي تمتلك آلاف المتابعين، إذ يبلغ عدد متابعي صفحة “السويداء دقيقة بدقيقة” 116 ألف متابع، بينما صفحة “السويداء على حافة الهاوية” 27 ألف متابع، وهو عدد كبير بالنسبة لمحافظة لا يتجاوز عدد قاطنيها المليون نسمة.
خلال الأشهر الماضية، كان لهذه الحملات أثر عميق، ليس فقط على ديما ولكن على العديد من الناشطات. حملات التشهير كانت تصيبهن في أكثر الأماكن خصوصية، تطال طريقة لباسهن وحتى علاقاتهن العائلية. بات عليهن أن يراقبن كل خطوة وكلّ حركة، خوفًا من أن تتحوّل إلى مادة لتشويه سمعتهن عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.
حين سألنا ديما عن اللحظة التي بدأت تشعر فيها بأنّها مستهدفة، أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تستجمع شجاعتها لتروي تلك اللحظات. كانت تتصفح الفيسبوك بداية شهر أيّار (مايو) 2024، في تلك الليلة عندما وقعت عيناها على صورة لها ولأبيها. لم تُنشر كصورةٍ عائلية فحسب، بل كانت مصحوبة بتعليقات جارحة.
“كانوا يشتمونني ويشتمون والدي بكلمات لا يمكن تخيّلها”، تقول بصوتٍ منخفض، وعيناها تتجنبان النظر إلى نقظةٍ محدّدة. في تلك اللحظة، بدأت تشعر أن العالم من حولها قد تغير. الهجوم لم يكن يستهدفها وحدها؛ بل امتد ليشمل أيضًا والدها الذي تعرضت صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي لسيل من التعليقات المهينة التي تهاجم مشاركة ابنته في المظاهرات ضد النظام، في محاولة لإحراجه وإهانة سمعته في مجتمع محافظ مثل السويداء، حيث يحمل التشهير وزنًا ثقيلًا.
تؤكّد ديما أنّ والدها كان متضامنًا معها، وحاول التخفيف من عبء هذه الحملات، فتخبرنا “بعد منتصف أيار تصاعدت الهجمات بشكل كبير لناحية معدّل النشر وتوسّع دائرة استهداف هذه الحملات للمتظاهرات”. وهنا تذكر الشابّة كيف كانت إحدى الصور العفوية التي التقطتها مع أصدقائها في نزهة طبيعية توضع في سياق مختلف، بهدف تشويه سمعتها. تسترل في وصف حالتها، متسائلة عن كيف يمكن لصورة بريئة أن تُصبح سلاحًا ضدها؟ كان ذلك أحد أبرز الأساليب التي تستخدمها العشرات من الحسابات المجهولة في حملات التشهير، مما دفعها إلى التخفّي أكثر والابتعاد عن الأضواء.
خوفها لم يكن من الصور أو التعليقات فحسب، بل من التشويه المتعمّد الذي اتّهمها بالعمالة بسبب عملها في منظمات المجتمع المدني. “اتهموني بأنني عميلة فقط لأنني كنت أوزع ملابس للمحتاجين”، تضيف ديما، مشيرة إلى سهولة تحوّل أبسط الأعمال الخيرية إلى إلى خيانة في عيون هؤلاء المجهولين. لم تلجأ الشابّة إلى القضاء، ليس بسبب عدم رغبتها في محاسبة من أساءوا إليها، بل لأن عدم الثقة في النظام القضائي جعلها تشكّك في جدوى هذه الخطوة. بالنسبة إليها، كانت المؤسسات القضائية أدوات بيد النظام، تخدم مصالحه وليس العدالة.. “كيف يمكنني أن أضع مصيري بين أيدي من لا يلتزمون بالحياد؟”.
مع تصاعد الهجمات التي طالت ديما، واجهت ناشطات عدّة الحملات الممنهجة نفسها، مثل سارة عامر (29 عامًا) التي طالتها بعض الهجمات بسبب دورها في تغطية الاحتجاجات. وسارة هي ناشطة إعلامية ومديرة مؤسسة “أمان” منذ عام 2021، وهي منظمة مختصّة بتوثيق الانتهاكات ضد النساء بسريّة لضمان خصوصيتهن.
خلال لقائنا معها، أخبرنا أنها كانت المستهدفة الأولى في حملات التشهير التي تعرضت لها الناشطات، قائلة: “تم استهدافي كما استهدفت باقي الناشطات، رغم عدم معرفتي الشخصية بالحسابات التي كانت تروج لهذه الاتهامات. كل ما في الأمر أنني كنت أؤدي عملي في تغطية الأحداث على الأرض”.
ما يميز سارة عن غيرها هو الدعم العائلي الذي تلقته، والذي ساعدها على التخفيف من وطأة الهجمات، “الدعم العائلي كان حاسمًا في بقائي متماسكة، خاصة عندما كنا نذهب أنا ووالدي إلى الساحة لمتابعة الاحتجاجات”.
تتشابه قصّتي ديما وسارة لناحية تعرّضهما لتشويه استهدف سمعتيهما بسبب نشاطهما المجتمعي والإعلامي. ورغم اختلاف التفاصيل بينهما، فإن جوهر المعاناة يظلّ واحدًا: التشكيك في النوايا وتلفيق التهم التي تهدف إلى إضعاف تأثيرهما على الساحة العامة.
وبينما اختارت ديما الابتعاد عن النظام القضائي لافتقارها الثقة في نزاهته، وجدت سارة نفسها تواجه قيدًا أمنيًا إضافيًا وهو منعها من السفر، وفي النهاية مُنعت الناشطتان من الحصول على جواز سفر قبل اضطرارهما للقيام بتسوية أمنية وتعهّدهما بعدم التظاهر.
أيدي الإعلام الرسمي
في مساء 24 تموز (يوليو) عام 2024، ضجّت صفحات محلية في السويداء بمقطع فيديو، ظهر فيه الشاب نور عريج متحدّثًا أمام هيئات دينية واجتماعية، مقدّمًا اعترافات مثيرة تتّهمه بالانخراط في شبكة تابعة للنظام تهدف إلى تشويه سمعة ناشطات المحافظة. أشار عريج في الفيديو إلى تورط مراسل “قناة الإخبارية السورية”، شام حمدان، في إدارة شبكة إلكترونية مهمتها نشر محتوى يسيء إلى الناشطات، عبر مجموعات فيسبوك محلية، مقابل مبالغ مالية. لاحقًا، سُلِّم عريج إلى الأمن الجنائي، حيث ظلّ موقوفًا بتهم تتعلّق بجرائم إلكترونية، دون صدور أي قرار قضائي بحقّه حينها.
للتعمّق في الجوانب القانونية والقضائية المتعلّقة بهذه القضية وغيرها من حملات التشهير التي واجهتها ناشطات السويداء، التقى فريق التحقيق بالمحامي والناشط الحقوقي أيمن شيب الدين (42 عامًا). يُعدّ شيب الدين أحد أبرز الأسماء القانونية في المحافظة، وعُرف بدعمه للقضايا المجتمعية ومناصرته لحقوق المرأة.
بدأ شيب الدين بالحديث عن الطبيعة المجتمعية للسويداء، موضحًا أن هذه البيئة الضيقة التي يعرف فيها الجميع بعضهم البعض كانت سلاحًا ذا حدين. “التشهير الذي تعرّضت له المتظاهرات يتجاوز مجرد الإساءة الشخصية، فهو يمس أعمق معتقدات هذا المجتمع: حماية الأرض والعرض”، يخبرنا شيب الدين، مضيفًا
أنّ استهداف النساء بهذا الشكل يهدف إلى زعزعة ثقتهن بأنفسهن وحاضنتهن الاجتماعية، مما يثنيهن عن المشاركة في الاحتجاجات”، لذلك حاولت حملات التشهير استغلال القيم الاجتماعية نفسها التي تحمي النسيج الاجتماعي لإضعاف الحراك.
وهنا يشير إلى عدد النساء اللواتي شاركن في الحراك حينها والذي “قدّر بثلث مجمل المشاركين فيه، وهي نسبة تُعتبر الأعلى على مستوى سوريا. لذلك، فإن تقويض دورهن يعني تقويض الحراك نفسه. النظام كان يدرك ذلك جيدًا، ولذلك استهدفهن بشكل مباشر عبر حملات منظمة”.
كيف كان يُمكن مواجهة هذا الهجوم قانونيًا؟ هنا استعرض شيب الدين تعقيدات النظام القانوني: “من الناحية النظرية، يمكن مقاضاة المتورّطين عبر فرع مكافحة الجرائم الإلكترونية. لكن في الواقع، الأمر معقد جدًا. معظم الناشطات المطلوبات أمنيًا لا يتجرّأن على تقديم شكوى خوفًا من الاعتقال، كما أن القوانين لا تسمح بملاحقة مجهولين”. وأضاف أن المشكلة لم تكن في القضاء بحد ذاته بل في تنفيذه، موضحًا: “القضاء قادر على الحكم إذا توفر الدليل، لكن الأذرع التنفيذية، مثل فرع مكافحة الجرائم الإلكترونية، الذي حاولنا التواصل معه، رفض التعاون معنا”.ماذا بالنسبة إلى بطء مجرى العدالة؟ وهل هناك أمثلة على دعاوى توقّفت بسبب هذا التعطيل التنفيذي؟ هذه بعض الأسئلة التي توجّهنا فيها إلى المحامي الذي أجابنا: “نعم، لدينا قضايا تستمر لأكثر من ثلاث سنوات دون نتائج تُذكر. هذا ليس مجرد إهمال، بل في كثير من الأحيان جزء من استراتيجية لتقويض أي محاولة للمحاسبة”. في إحدى المرات، كشف أن فصيلًا مسلحًا في السويداء أجرى تحقيقًا مع أحد المتورّطين في حملات التشهير. ذلك المتورّط اعترف بأنه جُنّد من قبل إعلاميين مرتبطين بالنظام السوري لتشويه سمعة الناشطات. رغم أهمية هذه الاعترافات التي تمّ ذكرها في الفيديو السابق، قال شيب الدين: “أنا لا أقبل بنتائج أي تحقيق خارج الإطار القضائي. العدالة يجب أن تتم عبر مؤسسات الدولة، وإلا فإننا نعطي مبررًا لاستمرار الفوضى”.
تحدّث المحامي عن التأثير العميق لهذه الحملات على النساء، قائلاً: “الضغط الاجتماعي الناتج عن التشهير يجعل العديد منهنّ يعدن التفكير ألف مرة قبل اتخاذ أي خطوة علنية، وما يترتب عن هذا الضغط من ضرر نفسي لا يقتصر على الناشطات بل يمتد إلى عائلاتهن أيضًا”. وختم مشدّدًا على تأثير التشهير الإلكتروني، قائلًا: “التشهير الإلكتروني جريمة لا تقلّ خطورة عن الجرائم الواقعية. علينا جميعًا أن نتحمل مسؤوليتنا في دعم النساء ورفض لغة الإساءة، سواء على الإنترنت أو في الحياة اليومية”.
بيانات محليّة في مواجهة التشويه
في أوائل أيّار (مايو) 2024، وبالتزامن مع تصاعد حملات التشويه ضدّ الناشطات، نظّمت وفود من الحراك زيارات إلى الوجهاء والزعامات التقليدية، بما في ذلك الهيئات الدينية، للتباحث حول خطورة تلك الحملات وأثرها. حملت الوفود بيانًا مشتركًا صاغته المرجعيات، يدعو إلى اتخاذ إجراءات حاسمة للحدّ من التشويه الممنهج. ونتيجة التحرّكات المحليّة، بدأت حملات التشويه تخفت تدريجيًا، فاختفت العديد من الصفحات والحسابات المزورة التي كانت تستهدف الناشطات.

(بيان صادر عن مشايخ عقل السويداء ووجهائها في السويداء فيما يخص تناول النساء المشاركات في حراك السويداء).
غير أنّ هذا الارتياح كان مؤقتًا؛ ففي الشهر ذاته، عُيّن أكرم علي محمد، الضابط المتقاعد برتبة لواء، محافظًا جديدًا للسويداء. منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها السراي الحكومي، على مقربة من ساحة الاعتصام، تصاعدت مشاعر القلق بين المحتجين. التاريخ الأمني للمحافظ الجديد ألقى بظلاله على المشهد، هو الذي ارتبط اسمه بقمع الاحتجاجات في حلب عام 2011، حين نفّذت قواته اعتقالات جماعية وواجهت المتظاهرين بالرصاص والتعذيب، وفقًا لتقرير موثق من “هيومن رايتس ووتش”. لذلك فُسّر تعيينه كمحافظ للسويداء على نطاق واسع كإشارة إلى تصعيد أمني قادم. مع وصوله، بدأ الجو العام يتغير تدريجيًا، وأصبح الخوف من المجهول يسود الساحة. شعر المحتجون بأن حملات التشويه التي استهدفت الناشطات لم تكن سوى تمهيدًا لمرحلة جديدة من القمع الممنهج الذي اعتاد النظام عليها منذ عقود، ما جعل حالة الترقب والحذر تطغى على أي شعور بالراحة.
في العاشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) من عام 2024 أصدر النظام قرارًا بالحجز على أموال 15 ناشط في احتجاجات السويداء، تبعها بحوالي الشهر استصدار قوائماعتقال رسمية عبر القضاء. شملت هذه القوائم أكثر من 100 ناشط، وُجهت إليهم تهم تتعلق بـ”تخريب ممتلكات عامة والنيل من هيبة الدولة”.بعد حملات التشويه الإلكترونية، غيّر النظام تكتيكه في التعامل مع الاحتجاجات. وبدلاً من التصادم الأمني المباشر، استصدر قرارات حجز أموال ومذكرات اعتقال، سعيًا للحد من تصاعد الاحتجاجات دون اللجوء إلى المواجهات الأمنية المباشرة.
دمشق.. عاصمة القضايا “المحرّمة”
بينما كانت السويداء تواجه حملات تشهير واسعة استهدفت الناشطات بشكلٍ مباشر، بقيت دمشق بعيدة عن هذه الظاهرة في الأعوام الأخيرة. ورغم أن ناشطات العاصمة لم يتعرّضن لحملات التشهير ذاتها، فإن ذلك لا يعني أنهنّ كنّ بمعزلٍ عن الضغوط الأمنيّة.
في دمشق، اتّخذت المعاناة شكلًا مختلفًا، حيث تفرض القيود الأمنية المشدّدة حالة من القلق المستمر، ويواجه الناشطون والناشطات هناك تحديات تتعلّق بالرقابة الصارمة على تحركاتهم وأنشطتهم. وبذلك، يظهر أن التحديات قد تختلف من منطقة إلى أخرى، لكن النتيجة واحدة: قمع النشاط المدني وتشويه أي محاولة للتغيير. بعكس السويداء التي كانت حملات التشهير فيها تركّز على كل تفصيل من تفاصيل حياة الناشطات، محاولة تشويه سمعتهن بشكل دائم ومستمر، شهدت دمشق خلال الفترات السابقة نوعًا مختلفًا من الهجمات. في العاصمة، لم تكن الحملات مستمرّة أو مركّزة على أشخاص بعينهم، بل كانت تأتي بحسب السياق والمناسبة والقضايا التي تقربها الناشطات. فعندما تتناول إحدى الناشطات قضية حساسة أو تطرح موضوعًا مثيرًا للجدل، كانت موجات التشهير تبدأ بالتدفق.
إقصاء النساء من الفضاء العام
إحدى اللواتي تعرضن لحملات التشويه كانت الصحفية سعاد المصري (45 عامًا – اسم مستعار)، التي تحدثت عن تجربتها الشخصية. “منذ بداية الحرب على سوريا، بدأت بالنشاط المدني وشاركت في عدة تدريبات حول قضايا المرأة والنشاط النسوي”، هكذا بدأت حديثها، مسترجعة مسيرتها التي رافقتها حملات من التشويه والتشهير. لم تكن تلك الحملات مرتبطة بوقت محدد أو قضية بعينها. وفقًا لسعاد، فإنّ الهجمات كانت تزداد شراسةً في المناسبات الخاصة بالمرأة، مثل فترة طرح موضوع تمكين المرأة أو الحديث عن مشاركتها في الشأن العام، ففي هذه اللحظات “كانت تشتعل الحملات الإلكترونية بالتهكّم والسخرية، فيتم تسخيف القضية وتحويلها إلى مادة للتنميط الجنسي”.
هنا تصف كيف كانت حملات التشويه تربط بين نشاطها النسوي وبين اتهامات بعيدة عن الواقع، كالـ “عهر” أو “العمالة لأجندات خارجية”. بصوت خافت، تابعت سعاد: ” في عام 2015 بدأت نشاطي النسوي، ترافق ذلك مع انتشار صور لي وأنا داخل هذه الورشات أقوم بدور المدربة وأحيانًا المتدربة، تلقيت في البداية رسائل تحرش، لكن عندما حاولت الرد وإسكات المتحرشين تحولت الأمور إلى استهزاء ب0نشاطي وطعن في شرفي”.
كانت تهم العمالة وتنفيذ الأجندات الخارجية جاهزة لكلّ ناشطة في مجالها. لهذا السبب، تجنبّت سعاد نشر أي نشاط لها على مواقع التواصل الاجتماعي، فالهجوم الذي تعرّضت له عام 2015، شكّل تجربة مؤلمة دفعتها للابتعاد عن وسائل التواصل، وتجنّب الخوض في النقاشات العامة.
تعرّض بريدها الالكتروني للاختراق والسرقة، بعد حضورها مفاوضات بروكسل. ورغم التحديات الإلكترونية، كان الهجوم الشخصي من بعض النساء الناشطات هو ما ترك الأثر الأعمق. “معظم التعليقات اتهمتني بأنني لست نسوية، فقط لأنني أرتدي الحجاب”، تخبرنا المرأة بابتسامة مريرة، مضيفة: “بالنسبة لهن، إما أن أخلع حجابي أو أنني لست نسوية”، وختمت حديثها “الحجاب لا يتعارض مع النسوية، وهذه مشكلة يجب أن تتخلص منها الأوساط النسوية في دمشق”
سوسن زكزك، البالغة من العمر 62 عامًا والمقيمة في دمشق، هي عضوة في المجلس الاستشاري النسوي. على مدى سنوات، كانت منخرطة في العمل العام وحقوق المرأة في سوريا، وشاركت في فريق المبعوث الأممي السابق ستافان دي ميستورا. تعرضت هي وزميلاتها لحملات هجوميّة في عام 2016 حين أُطلق عليهن لقب “نسوان دي ميستورا”، في محاولة للتقليل من قيمة عملهن النسوي المستقلّ، وبعد مغادرته أُطلق عليهن لقب “أرامل ديمستورا”.
كانت هذه الحملات تنطلق من قبل أشخاص مؤثرين، منهم نبيل صالح، الصحفي والعضو السابق في البرلمان، والذي كان من أبرز المهاجمين لعمل النساء في اللجنة الدستورية، والساخرين منه.

بحسب سوسن فإنّ المجتمع السوري، سواء كان مؤيدًا أو معارضًا، لا يسمح للمرأة بالوصول إلى مواقع صنع القرار إلا بشكل تزييني، وتظل الحركة النسوية محاصرة، إذ تُمنع من العمل في الحيز الحقوقي. ورغم هذه الضغوط، تؤكّد لنا أن النضال النسوي يجب أن يستمر لتحقيق استقلالية المرأة وكسر القيود المجتمعية المفروضة عليها.
محاصرة الحراك النسوي في المدينتين
يختلف تكتيك الحملات ضدّ الناشطات بين دمشق والسويداء بشكل واضح. ففي السويداء، تركز هذه الحملات على مراقبة أدق تفاصيل حياة الناشطات الشخصية والاجتماعية، وتعمل على تشويهها وتحريفها بشكل مستمر، مما يخلق ضغوطًا متواصلة عليهن. أما في دمشق، فالحملات غالبًا ما تكون متعلّقة بحدثٍ أو مناسبة معينة، فتُستغل تلك اللحظات لتصعيد الهجمات الإعلامية والأمنية ضدّ الناشطات.
لمعرفة التباين بين وضع الناشطات في السويداء والعاصمة دمشق، قام فريق التحقيق بإعداد استبيان الكتروني، وتوزيعه على 100 ناشطة في دمشق والسويداء على مدار 20 يوم، حول حملات التشويه التي يتعرضن لها.
نلاحظ من خلال الاستبيانات في مدينتي دمشق والسويداء، أنّ نسبة الخوف من التعريف بأنفسهن كناشطات هي الأكبر في دمشق حيث فاقت 73% بينما في السويداء لم تتجاوز 28% ومن هنا يبدو أن مساحة الحرية أو الحماية الاجتماعية والمهنية وحرية العمل النسوي والنشاط المدني له مساحته الأكبر في السويداء مقارنة مع دمشق والتي هي العاصمة ومقر العمل المدني للنشاطات كافة.

الرسوم البيانية المصاحبة لهذه الأرقام توضح الفجوة، فبينما تبدو السويداء أكثر مرونة وأمانًا نسبيًا للعمل المدني والنسوي، تقبع دمشق، المركز السياسي والاقتصادي للدولة، تحت قبضة أمنية أشدّ تجعل الانخراط في الشأن العام أكثر خطورةً.
أما في السويداء، ورغم سطوة التقاليد القبلية والمجتمعية إلى حدٍّ ما، فتوفّر العائلات أو المجتمع المحلي شكلًا من أشكال الحماية للناشطات، مما يمنحهن بعض الحرية في التعبير عن آرائهن وممارسة أنشطتهن المدنية. وذلك بخلاف دمشق، حيث الحضور المستمرّ لأجهزة المخابرات ينتقص من مساحة الحرية للتحدث علنًا عن القضايا الحساسة أو التحرك في مجالات العمل النسوي، ويفرض على النساء خوفًا من الكشف عن هوياتهنّ.

على الرغم من أن نسبة التحفظ وإخفاء طبيعة عمل الناشطات متقاربة، إذ بلغت 47% في دمشق مقابل 41% في السويداء، إلا أن الفجوة تظهر بوضوح في النظرة السلبية. في العاصمة دمشق، بحسب الإجابات التي حصلنا عليها من الاستبيان تصل نسبة النظرة السلبية للعمل النسوي إلى حوالي 32%، وهي أعلى من السويداء التي تسجل نسبة 27,3%.

كما نلاحظ تحفّظ الناشطات الإعلان عن عملهن والترويج له، بسبب حملات التشهير، إذ أخبرتنا 63.2% من الناشطات في السويداء، قلن أنهن تعرضن لحملات تشهير، في حين تنخفض النسبة في دمشق إلى 31% وفقًا أجوبة الناشطات المستبينات هناك.

تظهر نتائج الاستبيان فوارق واضحة بين دمشق والسويداء، في مختلف المحاور. في دمشق، احتل التشهير الجنسي النسبة الأكبر، حيث بلغ 58%، بينما في السويداء كانت النسبة أقل قليلًا، مسجلة 50%. على صعيد اتهامات العمالة، كانت السويداء الأعلى بنسبة 36%، مقابل 15% فقط في دمشق، وفيما يتعلّق بمحور عدم أهلية النساء، فكانت النسبة في دمشق 26%، مقارنةً بحوالي 13% في السويداء.
ووفقًا للاستبيان، اعتبرت الناشطات في دمشق أن حملات التشهير تركز بشكل أكبر على تشويه السمعة من خلال اتهامات تتعلق بالأخلاق الشخصية والكفاءة، بينما في السويداء، يتركز التشهير بشكل أكبر على اتهامات العمالة والخيانة. هذه الاختلافات تعكس التأثيرات المجتمعية المختلفة وطبيعة التحديات التي تواجهها النساء في كل مدينة.

في دمشق، تُظهر الإحصائيات أن 36% من الناشطات استمدن الدعم من أسرهن، في حين يُعتبر الشريك مصدر دعم أيضًا بنسبة 33%. بينما نجد أن 23% من الناشطات لا يحصلن على أي دعم على الإطلاق، مما يزيد من صعوبة رحلتهن في عالم مليء بالتحديات. حتى الأصدقاء، الذين يُفترض أن يكونوا سدًّا منيعًا في وجه حملات كهذه، فهم يُمثلون 18% فقط من مصادر الدعم.
على الجانب الآخر، في السويداء، نجد صورة مختلفة بعض الشيء. هنا، تسجل الأسرة نسبة دعم مرتفعة تصل إلى 42%، مما يُظهر قوة الروابط الأسرية وتأثيرها الإيجابي على النساء الناشطات. بينما يحتل الشريك نسبة 31%، مما يدل على دعم مُعتبر من الأصدقاء المقربين والعائلة. ولعل أبرز ما يُميز تجربة الناشطات في السويداء هو أن فقط 15% منهن لا يجدن أي دعم، في حين يُشكل الأصدقاء نسبة 21% من مصادر الدعم، مما يعكس بيئة أكثر دعمًا وإيجابية في مواجهة التحديات من تلك الموجودة في دمشق. في المحصلة، تشترك الناشطات في دمشق والسويداء، بمواجهتهن لاستهدافات أشدّ وقعًا تتمثل في حملات التشهير التي تحاول تصويرهن كمخالفات لقيم المجتمع.
المعارك بدأت الآن
في الثامن من كانون الأول (ديسمبر)، ومع إعلان سقوط النظام، تغيّرت الكثير من ملامح الحياة في دمشق والسويداء مع بقاء بعض الأمور كما هي. عضوة الحركة السياسية النسوية السورية حنان زهر الدين، تلخص الواقع الجديد بعبارة واضحة: “رغم سقوط النظام، إلا أن العقلية المجتمعية لم تتغير في نظرتها إلى المرأة”، مضيفة أنّ “التحديات التي تواجه النساء اليوم لم تعد أمنية فقط، بل قانونية واقتصادية. الضغط الاقتصادي، كما ترى زهر الدين، هو أحد أكثر الأسلحة فتكًا، “فهو يُبعد النساء بشكل غير مباشر عن مساحات التأثير، ويعيدهن إلى دائرة الاحتياجات الأساسية”.
لكن الأثر لم يقتصر على الاقتصاد.حتى في النقابات التي يُفترض أن يكون للمرأة دورٌ واضح فيها، شهدت التعيينات الأخيرة محاولات لتقليص وجودها، وفق زهر الدين، التي تشير إلى أن بعض القرارات داخل نقابة المحامين تُعيد إنتاج سياسات الإقصاء، ولو بوجوه جديدة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن المشهد شهد تغييرات شتّى. في دمشق، اتّسع حضور النساء في الفضاء العام، وشاركن في اللجان السياسية الجديدة التي تضم شرائح اجتماعية متنوّعة. “أصبح النسوة يشعرن أن البلاد لهن أيضاً”، تقول زهر الدين، لكن سرعان ما تستدرك: “الوضع في دمشق ليس انعكاسًا لكامل سوريا”. لذلك، فإنّ تسليط الضوء الإعلامي على العاصمة قد يخفي معاناة النساء في بقية المحافظات، تقول زهر الدين، مشددة على أن معركة النساء لم تنتهِ بسقوط النظام، بل ربما بدأت للتوّ.
هذا التحقيق جزء من مشروع ينفذه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ونُشر في خطــــــــــ 30 بتاريخ 27 كانون الثاني / يناير 2025
تم إنجاز هذا التحقيق قبل سقوط النظام السوري