تحتفل اليوم الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان بمرور /100/ عام على تأسيسها ، وفي الحقيقة هذا ليس مجرد رقم، إنه قرن كامل من الكفاح من أجل قيم حقوق الإنسان… قرن كامل من حياة منظمات أعضاء – موظفين – أشخاص… وفي الحقيقة أنا فخور أني واحد منهم، فقد شاركت الفدرالية قرابة ربع قرن من عمرها – من عمري حتى الآن…
ففي العام 2000، ساهمت مع مجموعة من الناشطين بإعادة إطلاق «لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا»، المنظمة الحقوقية الوحيدة في سوريا -في ذلك الوقت- التي كانت قد توقفت عن العمل إثر موجة واسعة من الاعتقالات التي طالت مؤسسيها عام 1991.
أثناء نقاشاتنا لإعادة إطلاق لجان الدفاع، قررنا أن يكون عملنا علنياً هذه المرة، وكنا نستعرض نقاط قوتنا ونتحدث عن تغير الواقع المحلي في سوريا وعن عالمية حقوق الإنسان، وكان زملائي القدامى يرددون دائماً «نحن أيضاً أعضاء في الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان».
في الحقيقة، لم أكن أعلم تماماً في ذلك الوقت معنى ذلك، وما هي الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، لكن كانت هذه الجملة تبعث في داخلي نوع من الطمأنينة.
في العام 2002 بعد أن تم قمع ربيع دمشق، كنت أتجهز للسفر إلى مدينة نانسي في فرنسا في زيارة عائلية، قال لي رئيس اللجان “أكثم نعيسة” بنبرة حاسمة: «إذهب إلى باريس، هناك الفدرالية وأطلب منهم دعم اللجان».
«أخيرا سوف اذهب إلى الفدرالية»… كنت أتخيل المكان طوال الوقت… لا بد أنه إحدى القلاع التاريخية القريبة من باريس… «هل يرتدون زياً خاصاً أشبه بفرسان المعبد؟».
وصلت إلى العنوان قبل الموعد بساعة… كان زقاقاً ضيقاً، وواجهة المبنى من السيراميك الأبيض والزهري -يا الهي كم هو قبيح- على الرغم من محاولة الاسترخاء في المقهى المجاور وإدراكي انهم لا يرتدون زياً خاصاً، إلا أن توتري لم يهدأ.
دخلت المبنى وكانت “ستيفاني دافيد” مديرة مكتب الشرق الأوسط في استقبالي، وسرعان ما انضم إلينا “إدريس اليازمي” الأمين العام…
«أنا “مازن درويش” من لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، نحن بحاجة إلى الدعم»، كنتُ أتحدث مثل الروبوت…
نظر إلي إدريس بكل هدوء وقال لي «ماذا يعني؟ نحن أيضاً بحاجة إلى دعم». نظرت إلى ستيفاني لإنقاذي، إلا أنها كانت بالكاد تحاول أن تخفي ابتسامتها.
بعد هذا الاجتماع بأشهر، كانت الفدرالية قد شرعت بتدريب /30/ حقوقي سوري في القاهرة على مبادئ حقوق الإنسان، وأصبحت بياناتنا وتقاريرنا وعملنا الحقوقي أفضل، وكذلك اجتماعاتي اللاحقة مع ستيفاني و إدريس… صارت أفضل
بداية العام 2004، كنا نحضّر لاعتصام أمام البرلمان السوري في دمشق ضد حالة الطوارئ المستمرة منذ عام 1963، وكنا قد أعلنا أن الاعتصام سيكون في 8 آذار -أي في نفس اليوم الذي أعلنت فيه-، وهو يوم وصول النظام الحاكم إلى السلطة والذي يحتفل به في كل عام، كان تحدياً كبيراً من قبل منظمة حقوقية لنظام حكم استبدادي في معقله، وفي ذكرى يوم انتصاره.
كنا مصممين وأيضاً خائفين، خصوصاً أن القوى السياسية اعتبرت أن الاعتصام مجرد انتحار ورفضت المشاركة. كانت التهديدات من قبل قيادات الأجهزة الأمنية تزداد كلما اقترب اليوم المنشود، وقبل ثلاثة أيام كنا نناقش فكرة إلغاء الاعتصام… شعرنا أننا تركنا لوحدنا بكل ما للكلمة من معنى…
إلى أن تلقينا ذلك الاتصال من مؤتمر الفدرالية الذي كان ينعقد في الإكوادور (نحن جميعنا معكم)… وخرجنا للاعتصام…
العام 2009 كنت أشعر وكأن عالمي فقد الجاذبية الأرضية، ولم يعد هناك أكسجين كافي لأتنفس. صحيح أني وقتها كنت قد خرجت من السجن، وأن محاكمتي أمام محكمة الجنايات العسكرية قد انتهت بسلام بعد أن حاولت استنساخ تجربة المملكة المغربية في العدالة الانتقالية في سوريا، إلا أن جهاز أمن الدولة أغلق مكتبي في العاصمة دمشق، وصادر كل شيء. كنت ممنوعاً من السفر، ممنوعاً من مزاولة مهنة المحاماة والعمل، وكان العديد من رموز الحركة الديمقراطية في سوريا في السجون، وتملكني شعور بعدم اهتمام أحد. كان صوت “سهير بلحسن” رئيسة الفدرالية متقطعاً: «هل تعرف مطعم جيد للعشاء في دمشق؟» وفعلاً كنت في اليوم التالي أتناول العشاء مع سهير وإدريس في المدينة القديمة بدمشق، وكانت وجباتنا التالية مع عائلات زملائنا المعتقلين في منازلهم.
قبل إطلاق سراحي من السجن عام 2015، أُخذت إلى مكتب وزير العدل في دمشق للقائه، وكان في نفس المبنى الذي يضم محكمة أمن الدولة، ومن ثم محكمة قضايا الإرهاب، يبدو أن الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري المتكرر قرابة الأربعة أعوام لم يكن كافياً لهم، بل كان لابد من رسالة أخيرة يوجهونها لي، قال لي بعصبية واضحة: «على الرغم من كل عملك الطويل في حقوق الإنسان، وكل علاقاتك الدولية ومعارفك، لم يسأل عنك أحد، ولم يهتم لأمرك أحد»، ابتسمت في داخلي وقلت لنفسي: «لابد أن زملائي والفدرالية وروابطها قد أوجعوكم حقاً».
خرجت من سوريا في نهاية العام 2015، ولم أتأخر في الذهاب إلى ذلك الزقاق الصغير، حيث المبنى ذو الواجهة القبيحة.
كان في انتظاري كادر الفدرالية بكل الدفئ والمحبة اللذين كنت بأمس الحاجة إليهما، وسرعان ما جلست في ذلك المكتب مع “انطوان برنار” و”كليمانص بكتارت” «حسنا ماذا سنفعل الآن؟»، لم تتأخر الإجابة: «نستطيع أن نستخدم الولاية القضائية العالمية واختصاص المحاكم العابر للإقليم من أجل إبقاء ملف العدالة والمحاسبة على الجرائم المرتكبة في سوريا على الطاولة»… وهذا ما كان…
في الشهر الخامس من هذا العام، كنت استعد للذهاب إلى أوكرانيا في بعثة تقصي حقائق، للوقوف على جرائم الحرب المرتكبة من قبل العدوان الروسي، وحيث أننا كنا سنتوجه إلى مناطق ساخنة تشهد أعمال عسكرية، طلب مني تعبئة استمارة تتضمن بالإضافة إلى تحديد إجراءات الوفاة وطريقة الدفن، أن أعطي اسمين للاتصال في حالة الطوارئ.
وفي هذه الحالة، عادة ما يختار المرء اسم فرد من عائلته، وأنا بدوري لم أتردد في كتابة اسم “كليمانص بكتارت” محامية الفدرالية على تلك الاستمارة…
مئة عام ليست مجرد رقم… إنها قرن كامل من الحروب، الاضطهاد، الإبادة، التمييز، العنف، والانتهاكات في كل مكان على هذا الكوكب الصغير… لكنها أيضاً قرن كامل من النضال والتصميم والكفاح لأجل إعلاء قيم ومبادئ حقوق الإنسان في كل مكان على ذات الكوكب الصغير…
لا نمتلك قلاعاً كبيرة، وليس لدينا جيوش وزي موحد كالفرسان، لكننا سنستمر وسننتصر…