افترسه وحش كاسر في الصحراء
في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات كنت لا أزال فتى أحاول أن أخطو باتجاه المراهقة بحياء وتردّد، وكان المجتمع السوري يحاول أن يخرج من عقدٍ آخر من الاضطرابات والصراعات الداخليّة والإقليميّة، التي توّجت بمجزرة حماة، وتمرّد رفعت الأسد -الأخ الشقيق لحافظ الأسد- والصراع في وعلى لبنان، والكثير من الأحداث التي كانت حاضرة يوميّاً في منزلنا، وفي مجتمعنا الصغير المعزول عن محيطه، لكوننا عائلة موسومة بمعارضة النظام الحاكم، الأمر الذي جعل علاقاتنا الاجتماعية مُقتصرة بشكل أساسيّ على هؤلاء المغضوب عليهم مثلنا. من بينهم كان جيراننا في الطابق السادس ببناء الصحفيين الواقع على أوتوستراد المزّة في دمشق، حيث كنا نقطن في الطابق السابع من ذات البناء. كان الأمن العسكري قد داهم منزلهم قبل سنوات واعتقل رب المنزل “ر. دركل” لاتهامه أنّه المسؤول المالي لتنظيم الإخوان المسلمين في سوريا، وعلمت العائلة بشكل غير رسمي بعد أكثر من عام على اعتقاله أنّه قد تمّ اعدامه في سجن تدمر.
في الحقيقة لم تشكل هذه القصة حينها حدثاً استثنائيّاً بالنسبة لي، فعالمي كلّه كان يتمحور حول الاعتقالات وزيارات السجون وتداول الأخبار حول المختفين والإعدامات، والكثير من الأخبار عن عفو قادم ربما بمناسبة العيد أو نتيجة للمتغيرات السياسية.
لكن الحدث الاستثنائي كان حضور “أ. دركل” نجل جارنا الذي تمّ إعدامه في سجن تدمر إلى منزلنا ذات مساء، هذه المرة وهو يلوّح بشهادة وفاة لوالده هاتفاً (أخيراً فُرِجَتْ). كنت أتفهم سبب مزيج الفرح والألم في نبرة صوته، فبدون شهادة الوفاة هذه لا يستطيع أفراد العائلة إنجاز الكثير من المعاملات الشخصية والمالية التي تؤثر على حياتهم اليومية. المفاجئ والاستثنائي بالنسبة لي كان سبب الوفاة المذكور في الشهادة (افترسه وحشٌ كاسرٌ أثناء رحلة صيد في الصحراء).
شهادة الوفاة هذه تطلبت من عائلة “ر. دركل” دفع مبلغ 8000 دولار -في ذلك الوقت- إلى أحد كبار ضباط الأمن بعد الكثير من العناء والوساطات. بعد بضع سنوات اضطررنا إلى سلوك نفس الطريق لمعرفة مكان اعتقال والدتي في فرع فلسطين بعد أن اختفت أثناء عبورها الحدود السورية قادمة من بيروت.
مع انطلاقة الثورة السورية في العام 2011 كان لي نصيبي – مثل مئات الآلاف من السوريات والسوريين – من الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري لثلاث مرات منفصلة، وعلى مدى سنوات تنقلت بين سبعة سجون سرية وثلاثة سجون رسمية. وفي مثل هذه الأيام من عيد الأضحى عام 2012 كنت على وشك أن أكون أحد وجوه “صور قيصر” لكن الأقدار شاءت أن أبقى على قيد الحياة ليطلق سراحي بعدها بثلاث سنوات.
أحد الأسباب التي ساهمت في بقائي على قيد الحياة وإطلاق سراحي لاحقاً كان خبر نقله إلى عائلتي أحد المعتقلين الذين أطلق سراحهم، حيث أخبرهم بحقيقة وجودي على قيد الحياة في معتقل سرّي تابع للفرقة الرابعة في ضواحي دمشق. خلال سنوات اعتقالي تقاسمت المصير ومئات المختفين قسرياً، كانت أكبر الأمنيات والدعوات التي تشاركناها هي إحالتنا إلى سجن مدني رسمي، حيث تتساوى حالة إنهاء الإخفاء القسري مع العودة إلى الحياة مجدداً. وبقي السؤال حاضراً في مخيلتي أبداً: هل يعني إطلاق السراح بعد تجربة التعذيب الوحشي وسوء المعاملة والإخفاء القسري العودة إلى الحياة؟ وهل هي ذات الحياة؟
طلباً للحياة فررتُ خارج سوريا بعد إطلاق سراحي وحضوري مرتين أمام محكمة الإرهاب، حيث كنت أحاكم طليقاً. وبعد وصولي إلى برلين بعدة أشهر في بداية صيف عام 2016 تواصل معي معدو برنامج “ضيف وحكاية” من تلفزيون DW الألماني لإجراء مقابلة خاصّة في أحد المعتقلات السابقة لأمن الدولة “الشتازي” إبّان جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وعلى الرغم من أنني تلقيت نصائح بإجراء المقابلة في مكان آخر، إلاّ أنّي أحببت الفكرة وأقنعت نفسي أني صلبٌ كفايةً، وزاد من طمأنينتي أنّ مقدمة البرنامج سماح الطويل ابنة معتقل سابق، وكنت قد عرفتها وأنا طالب في الجامعة.
في مرحلة متقدّمة من المقابلة اقترح معد البرنامج أن ننزل إلى الطابق السفلي من المعتقل حيث الزنازين الفردية وأماكن التعذيب. كنت أدركت قبل هذا، وفور دخولي إلى معتقل الشتازي أني اتخذت قراراً خاطئاً، ومع ذلك وافقت. ربما أحسست بالحرج من إظهار ضعفي وخوفي، على الرغم من أنّ ابتسامتي الدائمة لم تخفِ قلقي واضطرابي.
وهناك في الطابق السفلي تحت الدرج كان الهواء ثقيلاً وكأنّه مُشبع بالرصاص، وقفت أمام الزنازين التي كانت أبوابها مفتوحة، وفي لحظة ما لم أعد أسمع صوت محدّثي، ولم أعد أشعر بوجودهم. شاهدت داخل الزنازين أصدقائي: رأيت يحيى الشربجي وخليل معتوق ورزان زيتونة وأيهم غزول وناظم حمادي ووائل حمادة والقائمة تطول وتطول…
كانوا جميعهم في تلك الزنازين، يمدّون أيديهم، وجوههم مطفأة لكن أعينهم تلمع. هممت بالدخول إلى إحدى الزنزانات لإخراجهم، عندها شدّت على زندي يد أحد الأشخاص وسحبتني إلى الوراء، كان وجه سماح شاحباً وبلا ملامح، همس لي مُعد البرنامج بودّ أبويّ ويداه تحيطني: “من الأفضل أن نخرج لاستراحة في الهواء الطلق”. نظرت مرة أخرى إلى الزنازين، وكانت هذه المرة فارغة وباردة.
لم أقوَ على الكلام سرت معهم وكنت أطفو في حالة انعدامٍ للجاذبية، ولم نعد أبداً إلى هناك.
لايزال مصير أحبتي مجهولاً، كذلك عشرات الآلاف من السوريين، وربما مئات الآلاف. جزءٌ من حياتنا لا يزال مجهولاً. عدم اليقين يُتلف أرواحنا، وأيّ لحظات لسعادة مستحقة تبدو وكأنّها رفاهية نخجل منها، وإحساس بالذنب لا ينتهي، فقط لأنّنا على قيد الحياة.
بعد ساعاتٍ من الآن سيتوجه مندوبو دول العالم في نيويورك إلى قاعة الجمعيّة العامّة للتصويت على قرار إنشاء مؤسسة مستقلة لكشف مصير المفقودين في سوريا، بعد أن قادتهم إلى هناك الجهود الاستثنائيّة المذهلة التي بذلتها عائلات المفقودين وروابطهم. أمهات وزوجات وأخوات فَعلنَ كل شيء من أجل الحصول على حقهن بالمعرفة، حقهن بالحقيقة والحصول على إجابات.
سيدي سيدتي ممثل دولتك العضو في الأمم المتحدة:
عندما تتواجد في تلك القاعة وتختار الضغط على زر الموافقة أو الرفض أو حتى الامتناع عن التصويت أنت لا تمارس حق دولتك السياديّ في التصويت والمشاركة بصنع القرار فحسب -صحيح أنّ الحسابات السياسية جزءٌ من وجودك في تلك القاعة- لكن تذكر أنك عندما تختار الزر الذي ستضغط عليه فأنت تسجل موقفاً أخلاقياً للتاريخ بعيداً عن الحسابات السياسية والتوازنات.
أمام أعين ملايين الضحايا أنت تختار أن تمنح مئات الآلاف من عائلات المفقودين أملاً وخطوة عملية من أجل معرفة مصير أحبتهم. أنت تختار إذا ما كنت ستشارك في فتح باب للسلام المستدام في سوريا أو غلقه ربما لعشرات السنوات. أنت تختار إن كنّا نستحق كبشر الكرامة الإنسانيّة أو أن تترك عشرات الآلاف ليفترسهم وحش كاسر في الصحراء.