مازن درويش
لم تستطع في يومٍ من الأيام أي جماعة أو حكومة, أو نظام احتكار الحقيقة, أو إخفائها, أو حتى طمس وجهٍ من أوجهها حتى في زمن الجدران الفولاذية والأيديولوجيات الأحاديّة, والمجتمعات المغلقة.
كان هناك دائماً شهود وأشخاص يقومون بتسريب المعلومات, فيتم تداولها حتى لو كان ذلك في نطاقٍ ضيّقٍ وبشكلٍ سرّي. صحيح أنّه كان من الممكن تأخير وصول المعلومات وحصر معرفتها بعددٍ محدودٍ من الناس, والرقابة على تداولها, عدم نشرها للعموم, خصوصاً في الدول ذات الأنظمة الشموليّة, إلاّ أنها كانت دائماً تجد شقوقاً تتسرّب منها في النهاية لتظهر بأشكالٍ عديدةٍ كأخبارٍ يتداولها الأفراد في مجالسهم الخاصّة, أو إشاعات, أو حتى عبر تحويلها إلى “نكات” يتم تداولها وتحمل في طياتها أجزاءٍ من هذه الحقائق. وحتى في دول الأنظمة الليبرالية كان من الممكن التعتيم على المعلومات والحدُّ من انتشارها بين الجمهور مع أفضليّة وجود صحافةٍ تتمتّع باستقلاليّة وقوانين تحمي الحق في الحصول على المعلومات, ونشرها. وعلى الرغم من ذلك بقي تداول المعلومات ونشرها, حتى في هذه الدول, يعتمد على توفر الركائز الثلاث التي تشكّل أساسات العملية الإعلاميّة: الصحفي, وسيلة الإعلام, والمتلقي. فكان لا بُد لنقل المعلومة من وجود الصحفي الذي يتمكّن من الحصول على المعلومة من مصدرها أو من مكان الحدث ليقوم بإعدادها وإرسالها إلى وسيلة الإعلام التي تقوم بنشرها وإرسالها إلى الجمهور.
بقيت الحال على هذه الشاكلة لعقودٍ طويلة من عمر الصحافة, حيث تداول المعلومات رهينة لمدى التطوّر الديمقراطي داخل البلد, ولمدى توفّر أطراف العملية الإعلاميّة الثلاث, حتى جاء عصر الانترنيت وتكنولوجيا المعلومات الذي خلق فضاءً حُرّاً لتداول المعلومات عبر العالم, الأمر الذي أعاد رسم شكل الإعلام ووظائفه. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد, فمع الانتشار الهائل لمُستخدمي الانترنيت, وتشكّل المجتمعات الإلكترونية, واستخدام الوسائط المتعددّة, وبخاصّة الهاتف المحمول وتطبيقاته الذكية من قبيل ( الكاميرا- البلوتوث- الرسائل النصيّة- الرسائل المصوّرة- البث المباشر…), امتدّ التأثير ليس فقط على شكل الإعلام ووظائفه, وإنّما ليشمل الركائز التي تقوم عليها العملية الإعلاميّة وأطرافها.
ففي الوقت الذي حافظ فيه المتلقي- الجمهور- على كونه طرف أساسي وهدف للعملية الإعلامية بمختلف أشكالها ووظائفها, وخصوصاً صناعة الرأي العام, بدأت التبدّلات تظهر على الأطراف الأخرى, أي الصحفي ووسيلة الإعلام.
الصحفي ذلك الشخص الذي يحترف مهنة الصحافة كعملٍ مهني ومعيشي, المُتمكّن من قواعدها, المُلتزم بأخلاقياتها, والمُدجّج بمعداتها. لم يعد وحده من يستطيع نقل المعلومة وإيصالها, فبعد ثورة الانترنيت وتكنولوجيا الوسائط المتعددّة بدأ يُنافسه, وبقوّة, شخصٌ آخر. هذا الشخص هو أنت.
نعم هكذا ببساطة, أنت. لأنك كنت متواجداً بمحضِ الصدفة في مكانِ الحدث, أو ربما كنت من المشاركين فيه, أحد معارفك أخبرك معلومةً هامّة, صاحب قضيةٍ ولديك هدفٌ أو مصلحة في نشرها وتعريف الآخرين… كلُّ ما تملكه هاتفٌ محمول أو بريد إلكتروني, أنت بدأت تفرض نفسك وبقوّةٍ على مهنة الصحافة, ولم يعد بإمكان أيّاً من كان إنكار وجودك حتى أصبح لكَ تصنيفٌ خاصٌ ضمن تصنيفات العاملين في مهنة الصحافة, انتزعته بكل جدارةٍ واستحقاق, “المواطن الصحفي”.
فأنت من تنقل عنك وسائل الإعلام التقليدية كلها, كبريات الصحف والإذاعات, وكالات الأنباء, وشبكات التلفزة المحليّة والعالمية, تبحث عنك لتستنجد فيك في كلّ مرّةٍ لا تستطيع التواجد فيها في قلب الحدث. ربما ستشير هذه الوسائل في مقدمة نقلها عنك أنّ هذه المعلومات أو التسجيلات أرسلتها أنت إليها, وهي لم تستطع التأكّد من صدقيتها بشكلٍ مستقل. لا تقلق, هذه لازمة تتعلّق بقوانين مهنة الصحافة, ولا تتعلق بقدرتك على نقل المعلومة أو أهميّة عملك, حتى أنك أصبحت مصدر قلق حقيقي لكل جهة تحاول إخفاء الحقيقة, مصدر إزعاج للصحفيين المحترفين أيضاً.
لم تتوقف التبدّلات, في زمن ثورة الانترنيت والتكنولوجيا, عند حضور “المواطن الصحفي” كلاعبٍ أساسي على الساحة الإعلاميّة بل امتدّت إلى وسائل الإعلام التقليدية المُسيطرة نفسها إلى الدرجة التي أصبح فيها جزءٌ أساسي من الإعلام التقليدي المُسيطر ضحيّة بكل ما تعنيه هذه الكلمة. فالصحافة الورقية اليوم, مثلاً, بدأت تفقد أهميّتها كمصدرٍ للخبر أو المعلومة أمام سرعة الوسائل الحديثة الأخرى, وأمام شروط التصفّح الحديثة وأدواتها, فقد تحوّل الكثير من الصحف الورقية إلى الشكل الإلكتروني.
ولم يقف عند وسائل الإعلام الورقية, فأهم تغيّر أتاحته عملية التزاوج بين الانترنيت كفضاء افتراضي وتكنولوجيا الوسائط المتعددّة هو خلق وسائل إعلام جديدة سريعة الانتشار ومرنة وقليلة التكلفة, فمن صحيفة إلكترونية مُغرقة في المحليّة إلى مدوّنة شخصيّة أو موقعٍ إلكتروني أو محطة إذاعية عبر الانترنيت أو حتى تلفزيون عبر الانترنيت, وصولاً إلى المُجتمعات الإلكترونية التفاعليّة المفتوحة مثل “اليوتيوب” و”الفيس بوك” و”تويتر” وغيرها. بدأت وسائل الإعلام التقليديّة المُسيطرة تفقد سيطرتها على سوق المعلومة, فلم يعد نشر المعلومات حِكراً عليها, والأهم من ذلك لم تعد الحكومات أو أصحاب رأس المال هم وحدهم من يُحددّون المعلومة التي يجب أن تنشر أو تلك أن تُحجب, ولم تعد وحدها وسائل الإعلام التقليدية من تمتلك إمكانيّة صناعة الرأي العام.
ظهور “المواطن الصحفي” كلاعبٍ أساسي على الساحة الإعلاميّة, وخلق وسائل إعلام حديثة تتصف بالمرونة والانتشار وقلّة التكلفة, بالإضافة إلى المجتمعات التفاعليّة الإلكترونية المفتوحة, وتمكّنهم جميعاً الإفلات من الرقابة وسيطرة الحكومات ورأس المال, وهذا ما يُمكن تسميته اليوم بالإعلام البديل.
الإعلام البديل رغم حداثتهِ استطاع تشكيل الملامح الأوّليّة لهويّته المُستقلة عن الإعلام التقليدية السائد ضمن نسقٍ إعلاميٍّ تفاعليٍّ غير ربحيٍ, مُتعدّد الاتجاهات يلتفُّ حوله أفراد ببعدِهم المُجتمعي بعيداً عن المُحدّدات الأيديولوجية أو الفكريّة أو الطبقيّة, مُتحرّراً من القيود الرقابيّة النمطيّة. وظائفه تصبُّ في خدمة المجتمع بالإضافة إلى كونه جزءاً مُهمّاً من المجتمع المدني.
وأيّاً تكن الحدود الضبابيّة القائمة بين الإعلام التقليدي والإعلام البديل, خصوصاً في ضوء عدم وجود دراسات علمية مهمة بهذا الخصوص, والمآخذ المُحقّة التي تؤخذ على الإعلام البديل, تحديداً لجهة المصداقية والمهنيّة, إلاّ أنّه بفضل الإعلام البديل أصبح بإمكاننا القول بكل ثقة: عذراً سيدي … لم يعد بإمكانك سجن المعلومة.
المصدر : مجلة نادي الاعلام العدد الثاني