بشرى سارة للأردنيين: رقيب الفضائيات على قيد الحياة.. وبقاليات فضائية بثوب الوقار الديني

بسام البدارين

تعجبني الفضائيات المثيرة التي تتكاثر وتتوالد كالفطر وتسرق منا أطفالنا فهي أقرب للاستثمار العائلي وتشبه إلى حد بعيد بقاليات فضائية أو في أحسن الأحوال سوبرماركت من النوع الذي يقدم على الأغلب بضاعة رديئة.
وتثيرني مشاهدة طفلي الذي لا يزيد عن عام ونصف يتراقص ويتمايل مع موسيقى مكررة لأغنية ساذجة تقدم لنا باعتبارها الطبق المفضل لتنشئة الأطفال حيث لا كلمات ولا معنى محددا ولا رسائل تربوية.
والمأساة تكمن في إجبارنا على مشاهدة هذه القنوات ليلا نهارا فإغلاقها أو الاستغناء عنها يعني ببساطة مواجهة حالة البكاء والاعتراض الدائمة أو التعرض لحزمة عاصفة من الاستفسارات البريئة التي لا يمكن تلويث عقول الصغار بإجاباتها الصريحة ولسبب أو لآخر ترتدي فضائيات الأطفال دوما عباءة الوقار الديني فتبدأ بنشيد ديني وتكثر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسرعان ما تسحبها متطلبات السوق فتتنوع الموسيقى وتبدأ ببث موجة الأغاني التي لا معنى لها.

خروف أزرق

ولزوم الشغل أحيانا يتطلب تقديم أنشودة طويلة للأطفال بالقرب من لوحة للمسجد الأقصى وأغنيات تلعب على وتر القضية القومية بأسلوب تجاري ساذج للغاية وإذا كنت عزيزي القارىء من غير المحبين للخطاب الأصولي المتطرف الذي يمجد الموت على حساب الحياة فستحفظ مع أطفالك مضطرا أغنيات سخيفة تتحدث مرة عن العودة إلى فلسطين وأخرى عن العلاقة بين الحمار والدجاجة مثلا أو بين الديك وذئب يظهر بصورة كاريكاتورية مضحكة لغاية تجعله وديعا وضعيفا مما يشوه فكرة الطفل عن حقيقة الذئب أو الضبع.
ومن الواضح أن الترشيد الشديد في كلفة الإنتاج يجعل البقالية الفضائية مساحة لعرض رسومات مبكية من فرط سذاجتها تقدم للمشاهد البريء باعتبارها حيوانات مثلا .. دائرة متسعة وفوقها مستطيلان مع بقع سوداء في الوسط يفترض أنها بقرة .. سن على شكل مربع مع أذن متدلية يفترض انه أرنب أما الأسد فلا علاقة له بالملكية كما يظهر في هذه الفضائيات والخروف عبارة عن مجموعة صوف متناثرة وملونة وقد حيرتني ابنتي الصغرى وعمرها سبعة أعوام عندما طالبتني في احد الأعياد بشراء خروف أزرق اللون وأصرت على وجود خرفان زرقاء في الحياة مظهرة الاحتقار لألوان الخرفان البلدية التي شاهدتها بين الحين والآخر.
هذا الإنتاج البائس هدفه الحصري خفض الكلفة عبر الدكانة الفضائية التي تفرض نفسها على جميع المشاهدين العرب وما يثير القلق هو النوعية العائلية في فضائيات من هذا الطراز فبعد أربعة أسابيع فقط تكتشف بان البطل الرئيسي في برامج الفضائية المخصصة للصغار هو المستثمر صاحب البقالية أما المخرج الوحيد الذي يظهر اسمه على الشريط اللاصق بعد كل الأغاني والأناشيد والبرامج فهو اسم زوجة صاحب الدكانة الفضائية وليس سرا أن الكثير من الأغاني والأناشيد صورها الفضائيون الجدد في منازلهم أو عند حماواتهم.
وليس سرا أن مسؤول الديكور هو على الأغلب نسيب أو إبن عم أو شقيق صاحب البقالية الفضائية ويعمل بدوام جزئي أما عمليات المكساج والمونتاج وخلافه فتم جميعها في دكانة الكترونية واحدة فقط بائسة هي الأخرى يبيع صاحبها خدماته للجميع.

إستقرار وهمي بالخليج
وغالبا ما تتكرس صورة نجومية العائلة برمتها فطفلة رضيعة أصبحت نجمة النجوم في فضائية طيور الجنة مثلا وأطفال المستثمر صاحب البقالية هم النجوم الذين لا يشق غبارهم…. يعني المسألة باختصار أن أصحاب البقالة وأولادهم يرقصون ويغنون ويرسمون ثم يفرض علينا جميعا مشاهدة المنتج المنزلي الرائع فأنا شخصيا اضطر للجلوس على هذه القنوات أحيانا حتى يتوقف صغيري عن البكاء وأستمتع معه برصد البؤس معلبا على شكل عمل تلفزيوني وفني.
أما ثالثة الأثافي والصدمة الحقيقية فتبرز عند الشهر الثالث بعد ولادة كل بقالية فسرعان ما تتجول العائلة المليئة بالنجوم بين الأقطار العربية لتقديم فنونها الراقية أمام أسراب من الأطفال العرب وعلى مسارح يفترض أنها مخصصة للثقافة والإبداع .. وبسرعة يظهر علم دولة خليجية باعتبارها واحة للأمن والاستقرار ثم تظهر أغنية تمجد الدرك التونسي وثالثة يظهر فيها صاحب البقالة وهو يقبل ارض قطاع غزة بعد اختراق الفن للحصار.
وسرعان ما تبدأ جولة الفرقة الفضائية هذه لتمجيد الأنظمة العربية وتقديم أناشيد لا معنى لها وأهدافها تجارية محضة تغني في الواقع لأشياء غير موجودة في البلدان العربية مثل الأمن والرخاء والاستقرار والرفاهية والسعادة والانجازات العظيمة والابتسامة … وكلها مظاهر نفتقدها في عالمنا العربي لكن البقالة الفضائية تغني لها نفاقا وسعيا لقبض المعلوم .

الرقيب ما زال حيا .. حمدا لله

منع وزير السياحة الأردني الأسبق أسامة الدباس من الظهور على شاشة فضائية نورمينا الخاصة في عمان سبب كاف لممارسة الاحتفال فالرقيب الأردني بحمد الله ويمنه ورعايته لا زال حيا ولم يتوفاه الله بعد رغم كل الضجيج والإشاعات المغرضة التي تحدثت وتتحدث عن انطواء الرقيب الذي يمارس مهامه باسم النظام والشعب والمصلحة لوطنية وغيابه خلف الستار.
وهنا يمكن ببساطة ملاحظة ان الدباس سجل حلقة خاصة يتحدث فيها عن مشروع الكازينو لكن الرقيب الخفي في الحكومة ذا النفوذ القوي حتى في إعلام القطاع الخاص ودكاكينه الفضائية كان له رأي خاص في منع بث الحلقة وبالتالي حرمان الشعب والإعلام من الاطلاع على ما يقوله وزير كان في طريقه للعب دور كبش الفداء في قضية الكازينو.
قبل ذلك أظهر الرقيب الخفي انه على قيد الحياة وبقوة عندما منع مذيع جريء وشاب من إكمال سلسلة حواراته المهنية والوطنية على شاشة محطة رؤيا الخاصة أيضا .. بذلك يثبت لنا رقيبنا الحبيب والغالي قدرة فائقة على الصمود والتصدي والتمسك بالحياة بعدما دخل فيما يمكن وصفه بإجازة مؤقتة واختيارية.
إذا لا مبرر للترحم على الرقيب فهو حي يرزق والمسألة بكل الأحوال لا تخص ولن تخص أحاديث المترفين عن الإصلاح والتغيير وعن الانفتاح الإعلامي وعن استرخاء الرقيب وانشغاله بقضايا أهم حتى تنتعش حريات التعبير في الوطن فالرقيب هنا كان نائما لفترة قصيرة فقط واستيقظ بنشاط مستخدما أذرعه الطويلة للتدخل والحجب والمنع.
قبل ذلك ترك لنا رقيب الإعلام والتعبير والشاشات مساحة واسعة من الحرية تخص فقط نوع محدد من الصحافة فالرقيب لا يتدخل عندما يتعلق الأمر بتخوين واتهام دعاة الإصلاح ولا يتدخل لحماية مشروع الإصلاح نفسه أو لمساندة الوحدة الوطنية ولمنع الفرقة والانقسام.
ولا يتدخل الرقيب إحقاقا للحق وللإنصاف في الصحافة التي تنهش بلا ضمير أو رحمة من يقع من بعض السياسيين الليبراليين أو غيرهم، ولا يتدخل في نشر وبث الأخبار التي تنطوي على جرائم تروج ثقافة الكراهية، ولا يتدخل في صحافة الردح والإساءة والتشهير والابتزاز بكل أنواعه ولا يتدخل في الصحافة التي تشوه البعض أو تسيىء للمؤسسات أو تشتم نصف الشعب أو يدعمها لصوص الليل ورموز الفساد ولا يتدخل عندما يتعلق الأمر بصحافة انتهازية ركيكة شخصانية محرضة.
السؤال الآن ألا تكفينا كل هذه المساحة ن الحرية التي يغيب عنها الرقيب؟.. يبدو أننا قوم مترفون فرقيبنا العزيز يصحو وينام متى أراد يصمت أو يمرر أو يعترض أو يحجب كما يشاء ولا ينبغي لأحد الاعتراض فالرقابة لا تشمل ولا تضايق ولا تستهدف إلا حريات التعبير الحقيقية والقيم الحقوقية والمهنيين الإيجابيين أما من سرقوا المهنة أو سطو عليها أو تاجروا بها فلديهم مساحة هائلة من الحرية والانفتاح تغفوا خلالها عيون الرقيب.
مدير مكتب القدس العربي في عمّان