الدومري والشبيحة

الدومري والشبيحة
رياض معسعس
2011-09-07
عن القدس العربي 

في بدايات عهد بشار، وكان الشعب السوري موعودا بالمن والسلوى، وعسل المستقبل، تحت حكم شاب متعلم، ومنفتح على العالم، كيف لا وهو المتخرج، طبيب عيون، من أرقى الجامعات اللندنية. فهو مبصر، وبصير.
الشعب السوري ورغم معاناته المريرة مع الأسد الأب، ونظامه الدموي استبشر خيرا ببشار، وأعطاه كل الفرص كي يجعل من سورية بلدا ديمقراطيا يتمتع بالحرية، والعدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وإعادة الكرامة لسورية باستعادة الجولان المحتل الذي فرط فيه الأب. وكان أول من صدق هذه الوعود الفنان السوري العالمي علي فرزات. إذ حصد تأكيدا أن أحدا لن يتعرض له في حال إصدار صحيفته الساخرة: الدومري.
وقد صدرت الدومري ولاقت رواجا منقطع النظير منذ طرحت أعدادها الأولى في الأسواق. وقد طلب مني علي فرزات حينها أن أساهم في عمود أسبوعي فيها. وقد سعدت بذلك، رغم قناعتي بأنها لن تعمر طويلا في ظل نظام يصعب جدا أن يصلح من شأنه، فالإناء لا ينضح إلا بما فيه. وصدق ظني، إذ تم إغلاق الصحيفة بعد صدورها بأسابيع معدودة. وأذكر أن علي طلب مني قبل أسبوع من بداية شهر نيسان/ابريل أن أكتب مقالا في كذبة نيسان، الذي لم ينشر بعد أن باتت الصحيفة من المغضوب عليها.
قلت: طلب مني أن أكتب في كذبة نيسان، فقلبت الأمر العويص ظهرا لبطن، فماذا يمكن أن أكتب فخرجت أنتهز محالة. فحللت ضاحية من غوطتنا التي كانت غناء. فسرت أهيم ملتمسا مكانا قصيا، عل خلوتي تلهمني. فإذا بي بمكان قفر. نبتت فيه وردة حزينة. دمعتان تتدحرجان على خديها الذابلين. وأوراق رفعت راية الجفاف. فاقتربت منها أحدثها.
قلت: لا تخافي ولا تحزني فقد وعدونا بخطط لإنعاش الزهور والورود لأنها وجه البلد المنير. فالوردة عنوان للمحبة. فسيبلون عروقك كل صباح لتورد خدودك. وسيجعلون من حولك سندسا واستبرقا. وأكدوا لنا أن توصيات اللجان المختصة تشمل إعادة إحياء الغوطة، وحمايتك من الأيادي التي تريد أن تضرب عنقك وتضعك في مزهريات أو على شواهد القبور.
ولم أتم كلامي حتى هاجمتني جحافل الشوك، والقريص والعليق، والحنظل. فهربت لا ألوي على شيء،أصيح: أغيثوني أغيثوني. إنها كذبة نيسان يا ناس، وهم يشبعوني وخزا ولسعا ورفعوا بي التقارير يتهمونني بالعمالة للورود الخائنة، وأني استحق الموت وكزا.
ومررت بعصفور كئيب منتوف الريش بارز العظام. عاش دهره فارا من حجارة الاولاد، ورصاص الصيادين، ومخالب الطيور الجارحة. فقلت له: لا تخف ولا تحزن فعهدنا الجديد قطع عهدا بأن يبنوا لآل العصافير أعشاشا في أجمل الاشجار ويشبعوها حبا وفاكهة، ويأمنوا لها الحماية من كل ذي مخلب وناب، فتوصوصون وتزقزقون وتتحابون وتفقسون كما تريدون.
وما أن اتممت كلامي حتى هاجمتني أسراب النسور، والصقور، والعقبان، والبواشق، وسمعت خلفي رصاص الصيادين يلعلع، و تلاحقني الحجارة. فوليت الأدبار وانا أصيح يا ناس اسعفوني اسعفوني أقسم انها كذبة نيسان. فأصابني حجران، ونجوت من رصاصة، وتمكنت مني ثلاثة مناقير، وكتبوا في تقريرا وصموني فيه بالتحريض على ثورة العصافير وأني استحق الموت رميا بالرصاص.
ومررت بشجرة لم تلد أغصانها أي ثمرة، منفردة تنتظر حكم الإعدام بحز عنقها بمنشار فقلت لها: لقد قسى عليك الزمن. وأهملتك الأيادي، وهاجمك العطش، أقسم قسما غليظا بأني سمعتهم يقولون يأنهم يناقشون خطة خمسية، أولها سنون عجاف وآخرها سنون سمان. ليرفعوا الظلم عن آل الشجر. فهناك مشروع المليون شجرة كل عام، تشملها مشاريع ري كبرى. فاغمضي عينا وافتحي أخرى فإذا الغابات حولك ممتده. فتعودي إلى نضارتك الاولى، وتحبلين بأجمل الازهار، ثم تلدين أطيب الثمار، وتلهو أغصانك بأجمل العصافير، وسيبطلون حكم الإعدام فيك وذويك.
وما أن أتممت كلامي حتى هاجمني الحطابون واحد بمنشار، وآخر بفأس، وثالث ببلطة. وتبعهم متعهدو البناء الباحثون عن أراض جرداء بجراراتهم، وحفاراتهم، فانهزمت أمامهم أصيح: ارحموني ارحموني، اقسم انها كذبة نيسان. فاصابني منشار، وفجمت رأسي بلطة وألقي القبض علي من قبل الامن بتهمة الاحتيال على آل شجر. فساقوني إلى أول مركز للتحقيق. فقلت: يا اخوان انها كذبة نيسان. فقالوا: نقسم لك اننا في التحقيق لن نعذبك عذابا أليما، ولن نقبع أظافرك، ولن نجعل الكهرباء تسري في مؤخرتك إذا أفشيت لنا اسماء كل افراد العصابة المتآمرين مع الورود والعصافير والاشجار وكل الذين يستخدمون كذبة نيسان ككلمة سر للاحتجاج والتحريض على الثورة ضد النظام الديمقراطي القائم. فلما لم افش بسر، مر علي نيسان الاول، ونيسان الثاني، ونيسان الثالث، وانا رهن التحقيق والتعذيب حتى نسيت أن نيسان يلد الربيع، وأنه يبدأ بكذبة ظريفة .لكن في بلادنا كل شهر يبدأ بكذبة كبيرة بحيث ان كذبة نيسان لم تعد تنطلي على احد.
اليوم وبعد سنوات عشر عجاف خلبية الوعود والعهود، وتوقيف إصدار مجلة الدومري، التي صدحت بكلمة حق، تعرض رئيس تحريرها علي فرزات لهجمة بربرية على أيدي الشبيحة المجرمين، قاصدين التخلص منه، فهشموا يد الفنان التي فضح بأناملها كل حاكم ديكتاتوري جائر برسومه الرائعة المعبرة بسخرية ما بعدها سخرية منه ومن نظامه. لقد كان علي ككل الفنانين السوريين الشرفاء من الذين عبروا بشجاعة عن رأيهم، كل حسب اختصاصه، بهذه الثورة العظيمة، عرضة لهمجية شبيحته، وأجهزته القمعية المخابراتية ليأكدوا أن نظام بشار، المبصر البصير، المنفتح، المتعلم، ليس بأفضل من مورثه، الذي نكل بالشعب السوري، وارتكب بحقه أبشع المجازر، وأن الكلمة الحرة في سورية يعاقب عليها قائلها باستئصال حنجرته إن كان مغنيا، ويعذب في المعتقلات إن كان ممثلا، وتهشم يده إن كان رساما، وتكسر أنامله إن كان كاتبا. وهذا منذ أكثر من أربعين نيسان، فهذا الشهر لم يعد شهر الورود النضرة التي تفوح بعطرها شوارع دمشق، والعصافير المغردة على أغصان أشجار الغوطة الوارفة، بعد أن باتت كذبة نيسان بحجم نظام طعن ربيع دمشق في المهد.
شاعر من سورية