الإعلام الرسمي والآخر المضاد ..

  ثابت سالم

مجلة "نادي الإعلام" / العدد الثالث

الحرية والموضوعية هما حجر الأساس في تعريف الصحافة أو ما بات يدعى "بالإعلام" في أيامنا هذه لاتساع محتواه وتنوعه. والإعلام كما أفهمه هو "إيصال المعلومات كلها إلى الناس كلهم وبواسطة الناس كلهم".
والناظر إلى حال الإعلام في المنطقة العربية منذ انتفاء حق الإنسان العربي في اختيار حكوماته, وهو ما ترسخ وأصبح حقيقة لا يمكن إنكارها منذ أكثر من خمسين عاما, يرى أن كل ما قدم إلى هذا الإنسان من معلومات لم يكن بمجمله صحيحاً, ولم يكن كاملا. هذا ما يسمى في الشرائع الإنسانية الأخلاقية ومنها شرعة حقوق الإنسان, تدنيساً لهذا الحق ولهذه الشرائع التي صنعت المجتمعات الحديثة.
ليس أدل على ذلك الكيفية التي تناول بها الأعلام الرسمي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا , الحراك الذي شهدته هذه البلدان, ومرافقه من أحداث هي حتى اللحظة المادة الإخبارية الأولى في البرامج الإخبارية و مانشيتات الصحف في المنطقة والعالم.
لقد كان واضحا خلال جميع مراحل هذا الحراك الشعبي الجارف أن الإعلام الرسمي لدى الأنظمة التي واجهها هذا التحرك أتسم بالصفات المشتركة التالية:
أولا- إنكار الحدث والتقليل من شأنه: هنا أصبح هذا الأعلام أسير ما أعلن بل موغلا في تقييد نفسه, وكلما تكشفت الحقائق أمام الناس أصبحت ثقتهم بهذا الأعلام أقل فأقل حتى الوصول إلى حد التلاشي.
ثانيا- التشكيك بمصداقية الحدث: بعد أن أصبح الحراك حقيقة لا يمكن إنكارها بسبب توفر التغطية, ولو الضئيلة بواسطة وسائل الاتصال الحديثة, اضطرت الأنظمة إلى الاعتراف بوجودها لكن مع التقليل من شأنها ( التظاهرات بالعشرات بينما تقول الصورة أنها بالآلاف)
ثالثا- ربط الحدث بالمؤامرة الخارجية: وهي سمة اشترك فيها الإعلام الرسمي في هذه الدول ( نعم هناك أحداث, لكن الذي يحركها هو الأجنبي )
رابعا- تصنيع انجازات وتضحيات قدمها الحكام لشعوبهم: هذه السمة المشتركة تشترك فيها جميع وسائط الأعلام الرسمية في هذه الدول, مضافا إليها تمسك هذه الأنظمة (بالديمقراطية التي استلمت الحكم من خلاها)
خامسا- سرقة شعارات الحراك نفسها: أصبحت المطالب التي ثار الناس من أجل تحقيقها هي الشعار الذي عملت الطبقات الحاكمة في هذه الدول, ومازالت تعمل على تحقيقها منذ استلامها للسلطة طويلة الأمد.
سادسا- النفي المطلق للأعمال المخالفة للقانون والدستور التي قامت بها السلطة: وقد شكل هذا الأمر مقتلاً للإعلام الرسمي في هذه الدول, وتدميرا كليا للثقة بهذا الأعلام بعد أن تكشفت علاقة هذه الجرائم بالسلطات ( أعمال التخريب لأعوان النظام في تونس, موقعة الجمل في ميدان التحرير في القاهرة, حادثة البيضا قرب بانياس في سوريا, وحوادث الاغتصاب في ليبيا)
سمات خاصة بالأعلام السوري خلال الأحداث:
أولا: السمة الأخطر التي اتصف بها الإعلام السوري الرسمي ( ماعدا في حالة ليبيا) كانت التحريض. فقد تبنى الإعلام باستضافته لمواطنين جرى انتقائهم والحديث معهم هاتفيا أو مباشرة, على أنها عينات عشوائية, تبنى عملية تحريض مشينة وصلت إلى حد دفع الجيش إلى ضرب الموطنين بل والتهديد بأن هذا الجيش قادم للإجهاز عليهم ( محطة الدنيا في أحدى الأناشيد الموضوعة بمناسبة الأحداث).  إن هذا البعد الذي تميز به هذا الأعلام يقع دون شك تحت طائلة القانون.
ثانيا: يضاف إلى التحريض ما ارتكبه الإعلام السوري من خطايا ( وليس أخطاء) قاتلة أسهمت في حال الاستقطاب في المجتمع وزيادة درجتها:
1- احتكر الإعلام السوري وجهة نظر السلطة, وسوق وجهة نظرها فقط مستخدما مفردا واحدا و موحدا في وسائلة كلها, في حين منع أية وجهة نظر أخرى تفسر موقف المتظاهرين ومطالبهم. اعتبرت الشرعة المحتجة أن الإعلام الذي يساهم جميع المواطنين في تمويله باعتباره وطنيا (نظريا) يخدم الطبقة التي يقف هؤلاء المحتجون ضدها, ويخدم السياسة التي ينادون بتغييرها.
2- استخدام أسوأ أنواع الخطاب المباشر الذي وصم المحتجين بأنهم ليسوا أكثر من أدوات خارجية خائنة وهدامة, بل وأصدر حكمة ضدهم باعتبار أن هذا الإعلام هو من يمنح الشهادات في الوطنية ويحكم على الآخرين بالخيانة, مناقضا بذلك ما قاله رئيس الجمهورية من أن هؤلاء ( هم مواطنون سوريون يملكون الحق في التعبير عن مطالبهم ولا يتحملون مسؤولية الأحداث). – خطاب الرئيس في مجلس الشعب متناولا الأحداث في درعا.
3- الإساءة إلى حركة تحرير وطني هزمت إسرائيل وكانت أملا لهذه الأمة, أعني حزب الله. تحقق ذلك من خلال استضافة هذا الإعلام بعض ( الإعلاميين اللبنانيين) المحسوبين على الحزب لساعات وساعات, وقد أساؤوا في أحاديثهم إلى حركة الاحتجاج والسورين. أدى ذلك وبكل بساطة إلى تصنيف حزب الله على أنه طرف في الصراع وهو وما أعطى القوى الطائفية حتى الغربية منها وهي المعروفة بعدائها لحركة التحرير الوطني العربية, سلاحا استخدمته في خطابها بأن هذا الحزب يقف في وجه المطالب الشعبية في سوريا بعكس موقفة في البحرين, وذلك لأسباب طائفية. كان الشعور بالإحباط كبيرا وعميقا لإدخال الحزب في شأن سوري داخلي مما زاد في حالة الاستقطاب الاجتماعي الذي سوف يجر الويلات على البلاد في حال عدم إيقافها. لقد كان الفارق في الخطاب هؤلاء ( الفرسان الثلاثة) مختلفا تماما عن خطاب السيد أنيس نقاش في أحاديثه التلفزيونية عن الوضع السياسي في البلاد تاركا انطباعا بأنه ليس طرفا في هذا الصراع. إذن, وفي المحصلة أدى هذا الجهل في هذه السياسة الإعلامية إلى التقليل من رصيد الحزب الذي هو بطبيعة الحال حليف لسوريا, في بلد كان خزان من الدعم الكامل لهذا الحزب وعلى الدوام, كما كان بعدا استراتيجيا له.
4- مساهمة الإعلام السوري في إفراغ الخطوات الإصلاحية التي أعلن عنها في بداية الأحداث من مضمونها بحيث أعطى الانطباع بعدم جدية هذه الخطوات. تجلى ذلك بعد إعلان السيدة بثينة شعبان مستشارة رئيس الجمهورية عنها. فقد استخف هذا الإعلام بهذه القرارات بسبب تناقضها مع فلسفته وموروثه الذي قام علية لعقود طويلة كإعلام أحادي ليستنكر أي تحرك أو قرار يلامس المحرم (التابو) ويطالب بالحرية والتغيير. استخف هذا الإعلام بهذه القرارات (وضع قانون للأحزاب, إلغاء قانون الطوارئ, وزيادة الرواتب). بقى العنوان الأول في نشرات الأخبار ومنشيتات الصحف وعلى مدى ثلاثة أيام هو زيادة الرواتب وخفض الضريبة. بينما أعطى الاستخفاف بأهم خطوتين تقدم عليهما الحكومة على مدى خمسين عاما (ولو نظريا) أعطى الانطباع بأن هذه القرارات ليست جدية, وكما لو أن الأمر كان تنازلا من قبل النظام للشعب وليس رغبة عنده في التغيير. فلو قام الإعلام السوري آنئذ بخلق وصناعة حراك في المجتمع باستضافة ممثلين عن شرائح المجتمع كافة وأدخل المواطنين جمعيهم في عملية تفاعلية حقيقية تجعل التغيير مطلبا للجميع, لكان من الممكن أن تكون آثار هذه الإجراءات إيجابية, ولكان ربما قد وفر الكثير من دماء السوريين.
إن تحليل وتشريح الخطاب الإعلامي الرسمي خلال ربيع الحراك العربي, لا يعني أبدا أن الإعلام الغربي الذي يعلن عن نفسه بأنه إعلام مستقل لم يكن أفضل كثيرا من هذا الرسمي, بحيث لا يمكن وصفة بالإعلام المستقل والموضوعي في تناوله لهذا الحراك. بل إن بعض الأقنية العربية ترافقت تغطيتها مع أجندات واضحة لا تحمل صفة " حاملة رسالة الحرية" إلى المجتمعات العربية, حتى أنها في ابتعادها عن الموضوعية, أصبحت داعية مبشرة بل ومدعية بأنها صانعة ومحرك لهذا الحراك على حد زعمها. ومما ساعد على التشكيك في موضوعية هذه المحطات هو كيفية تناولها للحدث تحريريا بحيث كانت تغطيتها له انتقائية وموحية بأن هذا الحراك يقاد من قبل جماعات سياسية مؤدلجة ومن لوم واحد.
وبرزت هذه الانتقائية في التركيز على الشعارات التي أطلقها المتظاهرون العرب على أنها شعارات دينية فقط. وكان أي نشاط لأحد الرموز الدينية كما سوقته هذه الوسائل, هو النشاط الأبرز والدافع لهذا الحراك سواء على مستوى الصورة أو تحرير.
وأقل ما يقال في ذلك أنه مثال صارخ على التشويه الإعلامي وإساءة إلى تعريف وفلسفة الأعلام وحريته بعدم نشر المعلومة كلها وتجزئة المحتوى لتحقيق هدف سياسي معين, أي بكلمة أخرى هي تعمية وليس إبرازا للحقيقة, بعيدا عن الموضوعية الشرط الأساسي للعملية الإعلامية.
الخلاصة أن هذه السياسات الإعلامية المريضة والمشوهة أسهمت في تحقيق شرخ عميق وعمودي في المجتمعات التي تشهد هذه الحركات والثورات في وقت لو كانت فيه وسائل الإعلام هذه تتمتع بالاستقلالية وتعمل وفق تعريف وفلسفة الإعلام لما وصلت الحال إلى ما نحن فيه.
أما التساؤل الأكبر فهو: هل كان من الممكن أن يكون الإعلام الرسمي في هذه الدول إعلاما غير ما هو علية؟ الجواب في اعتقادي هو أن ذلك في حكم المستحيل. فتبنى سياسة إعلامية موضوعية ليس شعارا رغم أن الحقائق تبقى نسبية نسبيا. الأمر مرتبط قبل كل شيء بالالتزام بالحقوق الدستورية للمجتمعات التي تضمن حرية التعبير وحرية الأفراد وعدم الافتئات على هذه الحقوق من قبل حكومات غير دستورية.