المجلّة الفصليّة التي يصدرها أدونيس مع مبدعين بارزين، تحتضن في ملفّ عددها الثاني نصوصاً كتبها عشرون شاباً سورياً، عن التمرّد والتظاهر وأسئلة الهويّة، بين الواقع والفضاء الافتراضي. شهادات تطرح أسئلة الحريّة الشائكة، ونفَس يعيدنا إلى العصر الذهبي لمجلّة «مواقف»
صحيفة “الأخبار”: خليل صويلح
دمشق | في ملفّها «الشباب الجامح: المفهوم والتمرّد»، استضاف العدد الثاني من مجلّة «الآخر» (خريف 2011)، نحو 20 شاباً سورياً في شهادات عن تجاربهم الشخصية في الكتابة والحياة. تصدر المجلّة الفصليّة التي أطلقها أدونيس، وحارث يوسف، وكمال بلاطة (الذي وضع لوحة الغلاف) عن «دار الساقي». ويتضمّن ملفها السجالي، نصوصاً هي أقرب إلى محاولة لاختبار الذات في لحظة الربيع العربي، وتلمّس تضاريس جغرافيا زئبقية، زلقة وغائمة، تنهض على مرجعيّات متباينة يصعب تصنيفها في فضاء واحد، لكنّها تلتقي عند معنى الهوية والمواطنة والرفض.
«لقد أنهكنا الشرق بكامل جبروته وطغيانه وقساوته. أنهكنا حتى صرخنا في وجه الصدى والفراغ المتروك لنا «اللعنة على هذا الشرق اللعين»»، يصرخ وائل قيس. فيما يربط تمام بركات تاريخ ولادته في اليوم الموافق لخروج أبي عبد الله الصغير من غرناطة.
شاعر مهزوم وخائب ويائس لا يرتجي أملاً: «لا خلاص ليدي من خواء ادعى وصلاً، ولا قرار لهاويتي». من جهتها تراهن رشا عباس على التمرّد وحده في الكتابة والعيش، «وفيّة للصوص الأزقة»، ومتشردة في الحانات والمقاهي، ودكاكين الوشم. «أريد أن أعثر عليّ مرمية في بوب، أتذوّق بغرور نمطاً موسيقياً جديداً رائجاً في العالم، أو منغمسة من دون تقدير للعواقب في علاقة حبّ مهما بدت ظروفها موحية بالفشل المحتّم، أو عند وشّام أضع وشمي الثالث، وربما الرابع». ويبوح نبيل محمد في اعترافات متتالية بخيباته في الصحافة والأدب، ليستيقظ متأخراً على فكرة التغيير والهدم. «بعد ستّ وظائف، وخمسة منازل مستأجرة، وأكثر من شارع ومقهى، أفكّر في بطاقة طائرة رغم المجهول الذي ينتظرني». وسيم إبراهيم استقر في بروكسل مراسلاً صحافياً، في محصلة ليأس طويل من مؤسسات الدولة التي «كانت نيئة جداً، لتستقبل حيواتنا الملتهبة». ويتهم جعفر محمد العلوني الثورات العربية بأنّها عقائدية أولاً، فهي «تلغي الآخر، وتقتل الآخر باسم الثورة». ويضيف: «صحيح أنّها ثورات متحركة، لكنّني كما أراها تتحرك باتجاه الماضي». ويضع نورس عجيب اللوم على المحيط الاجتماعي لأنّه ينظر إلى الشباب باعتبارهم «مجرّد خردة، يجب توظيفها في أي مكان لتتحمل مسؤولية نفسها مادياً فقط». ويطالب سامر محمد إسماعيل بأن يعيش الحياة على أنّها سينما، وأن يقف على حافة الجنون هرباً من هذا «المتجر الفولكلوري»، بمتناقضاته التي تشبه صورة بالأبيض والأسود، في زمن يقترح «ابتسامة فوتشوب يابسة فقدت مصلها الحيوي».
خارج وقائع هذا الملف، وعلى المقلب الآخر، يكمن نص سوري مختلف، تسلّل من فضاء افتراضي في المقام الأول، وضع أصحابه أنفسهم في موقع من يقرّر هويات الآخرين وصلاحيتهم لعتبة ما بعد الثورة. جزرٌ معزولة تتوزعها المقاهي الحديثة، وشاشات اللابتوب، وأكواب القهوة الجاهزة. لا أحد من هؤلاء يعرف ماذا يجري على طاولة أخرى في مقهى مجاور. لكنّ ذلك الآخر متهم لمجرّد كونه من ورشة أخرى غامضة ومتخاذلة. احتجاجات لفظية تُغني صاحبها عن الاتهام بالصمت، وعدم الانخراط بحراك الشارع. اللحظة مناسبة لاستبدال العطالة التاريخية، بهوية وجلد جديدين، من دون نظرية صلبة، أو حتى تفكيك معنى قديم، أو نظرة عجلى على الفسيفساء السورية بأطيافها المتعددة، ونصوصها المضمرة. اختراع هذه الهوية التي لا تحتاج إلى أكثر من ختم مختار الفايسبوك، أغوى مئات الأشخاص بالهجوم اللفظي المضاد، أو حتى الاكتفاء بلوغو «أعجبني»، ليجد نفسه ثورياً لا يُشق له غبار، من دون أن يفكر في خريطة الغد، عابراً اللحظة على خطى امرئ القيس بتحوير دامغ «اليوم خمر، وغداً خمر». ما يبرِّر هذه الحماسة خلخلة صورة الاستبداد، وخرق هيبة النظام بشعارات ارتجالية مستعارة من ربيع آخر. هذه الصورة التي لم يحلم أحد بمجرّد التفكير في مسح الغبار عن إطارها المذهّب، خشية الشبهة، أو الانزلاق إلى حقل الألغام. لكنّ الساعة السورية أطاحت التوقيت الشتوي والصيفي للسنة في آنٍ واحد، من دون التفكير بالعواقب. المهم أن تصرخ وتتحدّى وتحتج، حتى لو كنت على بعد خطوات من الهاوية. أحد الشبان ممن اختبر شوارع التظاهرات، يصف اللذة التي عاشها جسده الراقص على وقع الهتاف، بأنّها تتفوق على أية لذة حسيّة أخرى. يقولها بنشوة عالية، وهو يقود عجلة فايسبوك بأصابع متوترة. وحين تسأله عمّا بعد هذه اللحظة، يحار في الإجابة، ويتلعثم بعبارات مرتبكة. ذلك أن السجالات التي تدور في محيطه الضيّق لا تتطلب أسئلة من هذا النوع، بقدر ما تتخندق وراء حماسة شبابية متفلتة من أية فواتير مستحقة الدفع… أقلها عبئاً، قراءة بنود دستور البلاد، أو تاريخ استقلالها، أو حيثيات قانون الطوارئ السيئ الصيت، أو… وليمة الدم المقبلة.