من سيوثّق لحياة عمر أميرالاي؟ رحيل السينمائي المشاكس في زمن يعزّ فيه المشاكسون

من سيوثّق لحياة عمر أميرالاي؟ رحيل السينمائي المشاكس في زمن يعزّ فيه المشاكسون

دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ من يارا بدر: التقيته للمرّة الأولى قبل عامٍ من مثل هذا اليوم، رجلاً أنيقاً، باسماً، هادئاً، متواضعاً. التقينا لنتحدّث عن ثقافة الرقابة على الحرّيات الثقافية في سورية، وللمخرج ‘عمر أميرالاي’ تاريخٌ طويلٌ مع الرقابة السورية.
بَلغني أوّل أمس في 6/2/2011 بأربع طرقِ مختلفة أنّ ‘عمر أميرالاي’ قد رحل. وأقساها كان الرسالة على المحمول ‘توفي عمر أميرالاي’. في الأخبار توفي ‘عمر أميرالاي’ عن عمرٍ ناهز الخامسة والستين (مواليد 1944). وفي الأخبار ‘وفاة المخرج السوري المشاكس إثر جلطةٍ دماغية’، وفي الأخبار أيضاً ‘يتميّز أسلوبه الفني بالاختلاف عن غالبيّة المخرجين السوريين الذين درسوا في الاتحاد السوفييتي أو أوروبا الشرقية’.
لكن بعيداً عن هذه الأخبار، خَطرَني سؤالان: ما الذي حدث لفيلمه المُنتظر عن حياة الممثلة السورية ‘إغراء’؟ وهل لا يزال ‘عمر أميرالاي’ ممنوعاً من السفر؟
‘عمر أميرالاي’ إشكاليٌ مشاكس، من جذوره إلى تفاصيل حياته، فهو دمشقي المولِد في منزلٍ يقوم على مرمى حجرٍ من مقام الشيخ الأكبر ‘محيي الدين بن عربي’، ذو أصولٍ عثمانية من خليطٍ قومي شركسي كردي تركي وعربي. درس المسرح في جامعة مسرح الأمم المتحدة في باريس أواسط الستينيات من القرن العشرين، والتحق بعدها بالمعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، إلى أن كانت الثورة الطلابيّة في أيار (مايو) 1968، حيث انقطع عن دراسته بعد المشاركة في الثورة، وعاد بعدها بقليل إلى دمشق، تحديداً عام 1970.
ابتدأ ‘أميرالاي’ حياته بأحلام الشباب وتطلعاتهم الثوريّة، حمل كاميرته وذهب يحكي عن روعة سد الفرات وخيراته عام 1970 في أوّل شريطٍ له أسماه ‘محاولة عن سد الفرات’. إلاّ أنه، وبعد قرابة العشرين فيلماً تسجيلياً، ذهب إلى هناك مرّة أخرى عام 2003 ليُقدّم ‘طوفان في بلد البعث’ عن الوجه الآخر للسد، وآلية بناء هذا السد، وكل ما يمثله السد. محاكمة قاسية لأحلام الشباب وواقعهم ومن تحكم بهذا الواقع وتلك الأحلام، محاكمة قادت الفيلم إلى المنع من العرض في سورية.
‘عمر أميرالاي’ مُخرجٌ يأسرُ مشاهديه، لا يهتم بالبهرجة أو بالضجيج، ولا يهتم كثيراً بعائدات شباك التذاكر، بل إنّه مخرج أفلامٍ ممنوعة من العرض في سورية. وهو مُفكرٌ من طرازٍ لا يُصفق له الجميع، من طرازٍ خاص، كالمفكر الفلسطيني الراحل ‘إدوارد سعيد’ أو الكاتب السوري الراحل ‘سعد الله ونوس’، أناسٌ انطلقوا في رؤاهم الفكرية من كونهم مفكرين كونيين، مفكرين لا يشوبهم تعصّبٌ قومي، أو ديني، أو طائفي، وفي هذا السياق قال ‘أميرالاي’ في إحدى الحوارات معه: ‘أتاحت لي ولادتي من عدة أعراق أن أكون إنسانياً بعيداً عن التعصب القومي الذي لا أجد له أساساً علمياً وواقعياً، والحديث يطول في ذلك، فكنت دائماً بعيداً عن التعصب العرقي والديني والطائفي، كما أنني أعتبر المكان الذي أكون فيه ولادة وحياة وموتاً مصادفة محضة، فهل أستطيع أن أبني على المصادفة رؤية أيديولوجية؟’.
من هذه الزاوية بنى ‘أميرالاي’ أفلامه التسجيلية، التي شكّلت مدرسة ومنهجاً فنياً لأجيال اليوم من الشباب السوري الحالم بالعمل السينمائي ولا يجد لنفسه مساحةً، إنّما الفرق أنّ السينما التسجيلية لـ ‘عمر أميرالاي’ ليست وسيلة تمهيدية للعمل السينمائي أو للسينما الروائية، تقدّمه كمخرج ريثما يجد التمويل الكافي لصنع الأفلام الروائية الطويلة، كما هو حال الكثيرين من جيل المخرجين الشباب العاطلين عن العمل في سورية، بل هي أسلوب طرح فني وفكري مُتكامل. إنها منهجه في العمل السينمائي. فهو يختار الحالة الإنسانية، واللحظة، ودائماً ما يحضر الإنسان أولاً وأخيراً في جوهر قضيته السينمائية، لكنه الإنسان المحكوم، مثل ‘أميرالاي’ بالرقابة السياسية. إنه ‘ميشيل ساورا’ الصحافي الذي يموت اغتيالاً في ‘يوم من أيام العنف العادي’، إنها ‘بنظير بوتو’ الحالمة ورئيسة الوزراء، إنّه ‘سعد الله ونوس’ المُتعب إثر معاناته مع مرض السرطان، إنّه ‘الشهبندر’ العجوز الحالم بالفن السينمائي، إنه ‘فاتح المدرّس’ المجنون بألوانه، المحصور في مرسمه. إنه ‘رفيق الحريري’ السياسي ورجل الأعمال في ‘الرجل ذو النعل الذهبي’ (2000)، وصولاً إلى ‘إغراء’ التي كنا في انتظار أن تتكلم، النجمة المعتزلة ‘نهاد علاء الدين’ التي لقبتها صحافة السبعينيات بلقب ‘بريجيت باردو الشرق’، لكن القيّمين على الفن السوري اليوم، قرروا تجاهلها واعتبارها نجمة – أفلام تجارية – دون تكريم أو حتى اهتمام بحياتها أو موتها. في حين رآها ‘أميرالاي’ امرأةً حرّة، لها مشروعها الذي قاتلت لأجله سنوات، امرأة تملك الجرأة لتدافع عن أحلامها، ولا تعيش الازدواج كما يفعل الكثيرون.
الازدواجية التي تفرضها القوانين الاجتماعية، أو الزيف الاجتماعي في بعض الأحيان، الازدواجية التي تُمليها الرغبة في العمل والقوانين التي تقيّد حرّية العمل والتفكير والرأي، قادت ‘أميرالاي’ وشخوصه إلى المنع من العرض على الجمهور السوري، منذ ‘الحياة اليومية في قرية سورية’ المُنجز عام 1973 بمشاركة ‘سعد الله ونوس’، وبعد عام قدّم ‘الدجاج’ وتوالت الأفلام ليكون ‘أميرالاي’ صاحب أكبر سجل للأفلام الممنوعة في سورية. ومن سخرية أقدار الرقابة السورية أنّ الفيلم الممنوع من العرض ‘الحياة اليومية في قرية سورية’ هو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما!!
من جهته أجابني ‘أميرالاي’ بهذا الخصوص قائلاً: ‘أنا كمخرج لا أستطيع أن أقدم عملاً لا يكون شاهداً وصادقاً مع نفسه. إنّ عملاً يُزيّف الواقع أرفضه، ويجب أن ننقل هذا الواقع بموقفٍ نقدي كي يُصبح للعمل الفني وللفيلم التسجيلي تحديداً معنىً. وفي تجربتي الشخصيّة، فإنني ومع كل فيلم أكتشف عاملاً رقابياً شخصيّاً’.
البارحة رحل ‘عمر أميرالاي’، كما فعلها الكثيرون من قبله، رحل قبل أن تتكلم ‘إغراء’، وربما رحل قبل أن يُشاهد بعضاً من أحلامه تتحقق، رحل قبل أن تُرفع الرقابة عن أفلامه، رحل دونما مشاكسة، رحيل المتعب الذي لا يُريد وداعاً. رحل السينمائي المشاكس في زمن تعز فيه المشاكسة، ولعلهم غداً يذكرونه بأربعة اسطر في الصفحة الأخيرة من إحدى الجرائد الرسمية. وربما غداً يعرضون جميع أفلامه في إحدى المهرجانات، مع أنني أشك في ذلك، وتفتخر مؤسساتنا الرسمية بالسينمائي السوري ‘عمر أميرالاي’ كما افتخرت بعد طول نسيان بصاحب ‘الرسالة’ المخرج ‘مصطفى العقاد’، فكم تصح في أحوالنا مقولة ‘الحسين بن منصور الحلاّج’ :
اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي

فيلموغرافيا:
فيلم محاولة عن سد الفرات (1970)
الحياة اليومية في قرية سورية (1973)
الدجاج / عن ثورة / مصائب قوم / رائحة الجنة / الحب الموؤود / فيديو على الرمل/ العدو الحميم / شرقي عدن
إلى السيّدة رئيسة الوزراء بينظير بوتو (1990)
المدرّس (1995)
في يوم من أيّام العنف العادي، مات صديقي ميشيل سورا.. (1996)
هنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء (1997)
طبق السردين (1997)
الرجل ذو النعل الذهبي (1999)
طوفان في بلد البعث (2003 )