رؤية المتضررين للعدالة التعويضية في حالات الاختفاء القسري
دراسة حالة: سوريا
عرف عموم السوريين والسوريات المثل الشعبي “أم القتيل بتنام، وأم المهدد ما بتنام”. ولعل هذا المثل يعبّر عن حالة أقارب عشرات آلاف السوريات والسوريين المختفين قسرياً، وينتظرون، بفارغ الصبر، أخباراً عن مصيرهم أو مكان وجودهم.
إذا كان الاختفاء القسري قد لاقي اهتماماً كبيراً خلال الصراع، الذي يدخل الآن عامه الثالث عشر، فإنه جزء من الواقع في سوريا منذ عقود. لا ريب أن الاختفاء القسري لم يكن بنفس الشدّة التي كان عليها خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية، ولكنه من معالم المواجهة بين الحكومة السورية وتنظيم الإخوان المسلمين وأحزاب أخرى في أواخر سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي. ورغم تقارير المنظّمات الحقوقية، لا تعترف الحكومة السورية بجرائمها المرتكبة خلال تلك الفترة، بما يشمل أي محاولة للتعويض أو تحقيق العدالة. ولم تعترف الحكومة بإخفاء آلاف السوريين دون أثر. في النزاع الحالي، استُخدم الاختفاء القسري من جديد سلاحاً ضد المعارضين.
يرد وصف الاختفاء القسري كجريمة دولية في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، التي صادقت عليها الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 2006، والتي خصصت بنوداً للتأكيد على أن الإخفاء القسري جريمة تخالف القانون الدولي. وكما هو منصوص عليه في المادة الثانية، ينطبق مصطلح “الاختفاء القسري” على عدة إجراءات منها الاعتقال والاحتجاز والاختطاف وغيرها من أشكال الحرمان من الحرية. بعبارة أدق، تنص المادة الثانية على أن الاختفاء القسري يحدث عندما يقوم موظفون حكوميون أو أشخاص أو مجموعات من الأشخاص باعتقال أو احتجاز أو اختطاف، أو بحرمان آخرين من الحرية بأي شكل من الأشكال، بموافقة أو دعم أو تواطؤ الدولة، ويليه رفض الاعتراف بالحرمان من الحرية، أو إخفاء مصير أو مكان تواجد المختفي قسرياً، الأمر الذي يضع المختفي قسرياً خارج حماية القانون.
بالتالي، تنص المادة الخامسة من الاتفاقية على أن ممارسة الاختفاء القسري على نطاق واسع أو بشكل منهجي هي جريمة ضد الإنسانية، كما يعرّفها القانون الدولي، وتستدعي العواقب المنصوص عليها لهذا النوع من الجرائم في القانون الدولي. كما تؤكد الاتفاقية أن على الدول اتّخاذ الإجراءات اللازمة لوصف الاختفاء القسري كجريمة في قوانينها الجنائية. وحسب المادة 7، تفرض كل دولة طرف عقوبات ملائمة على جريمة الاختفاء القسري تأخذ في الاعتبار شدة جسامة هذه الجريمة.
عام 2010، أفادت دراسة مشتركة للاحتجاز السري في أعمال مكافحة الإرهاب، أجراها عدد من مقرري الأمم المتحدة، بأن الاحتجاز السرّي يُعد اختفاءً قسرياً. بعبارة أدق، خلصت الدراسة إلى أن “كافة حالات الاحتجاز السري تُعدّ حالات اختفاء قسري”. عليه، يمكن الاستنتاج أن التعريف الدولي للاختفاء القسري يشمل الاختطاف بأمرٍ أو دعم من الدولة، بما يؤدي إلى الأسر السرّي والحرمان من المسار القانوني.
ولكن، تجدر الإشارة إلى أن سوريا لم تصادق على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وأن قوانينها المحلية لا تنص، صراحةً، على تجريمه. كذلك، لا تعترف الاتفاقية بالأطراف المشاركة في النزاع خارج إطار السلطات الرسمية أو سلطات وقوى الأمر الواقع. النزاع في سوريا معقد، وتشارك فيه عدة قوى دولية وغير دولية، إلى جانب سلطات وقوى الأمر الواقع. ومما يزيد هذه المسألة أهميةً انتشار الاختفاء القسري في النزاع السوري وفي حملات الحكومة على المعارضة. أدى النزاع إلى اختفاء أكثر من 130 ألف، والعدد في تزايد مستمر. تعرض رجال ونساء وأطفال للاختطاف والقتل والإخفاء، أو فُقِدوا أثناء الهرب من العنف على طرق الهجرة.
رغم فداحة هذه الانتهاكات، لا تتعامل آليات العدالة والمحاسبة، المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بالوضع في سوريا، مع حالات الاعتقال العشوائي والاختطاف والاختفاء القسري. وإذا كان الدستور السوري يؤكد على أن الحرية حق مقدس، وأن واجب الدولة حماية حرية وكرامة وأمن المواطنين، فإن التطبيق العملي لا يحترم هذه البنود الدستورية.
في السياق السوري الحالي، الذي يُمارَس فيه الاختفاء القسري على نطاق واسع كتكتيك قمعيّ، تعجز الأطر القانونية لمنع الاختفاء وجبر الأضرار منه عن أداء عملها أو هي غائبة كلياً. لذلك، سيستكشف هذا البحث جبر الأضرار من الاختفاء القسري من وجهة نظر السوريات والسوريين الذين تعرّضوا، هم أو أقاربهم، للاختفاء القسري، أو ما زال أقاربهم في عداد المفقودين. ويركز البحث أيضاً على فهمهم جبر الأضرار ورؤيتهم لإجراءات جبر الأضرار في المستقبل، وما إذا كان جبر الأضرار ممكناً في سوريا، ووجهة نظرهم في الآليات القائمة التي تتناول الاختفاء القسري في سوريا.