معادلةٌ دولية وإقليمية هي التي حمت السلطة في سوريا حتى الآن وهي أيضاً التي ربطت الحدث السوري بالتسويات الإقليمية والاتفاقات الدولية على النفوذ والسيطرة، في مقابل انعدامٍ تام لإرادة الشعب السوري ورؤاه, أو لواقع السيطرة الميدانية على الأرض حتى,هذه المعادلة التي رسمت حدودها أسبابٌ باتت معروفة للجميع ماكان لها أن ترتسم لولا قدرة الحكومة على امتصاص الصدمة الأولى، ومواجهة المتظاهرين في الساحات ومنعهم من النمو والتمدد, مستعينةً بثقافة الخوف التي شكلت الأساس لدولة حافظ الأسد، وضمنت انتقالها لوريثه، والتي قامت على كمٍ هائلٍ من العنف المنظم بحق المجتمع من جهة, وتأصيلٍ قانوني للاستبداد من جهة أخرى عبر تقويض المفاهيم الراسخة حول الدولة والإدارة، وتشويه نزاهة وتجرُّد المؤسسات العامة، لصالح استبداد مؤَصل بحكم القانون، ومشرعن باسمه، ومرتبط عضوياً مع بنية الدولة نفسها، يختلف جذرياً عن ممارسات الحكم الاستبدادية التي شهدتها البلاد منذ انقلاب الزعيم عام 1949، والتي كانت تزول أو تتبدل بانتهاء الانقلاب واستعادة الحياة النيابية، إذ تنطوي مأسسة الاستبداد على تشويهٍ في بنية الدولة الأصلية لا يزول بزوال الحاكم أو باستبداله، بل يتطلب الأمر لتغييره، زوال النظام السياسي برمته وتأسيس حقبة سياسية جديدة بالدولة، التي شهدت خلال السنوات الأولى من حكم حافظ الأسد تغييراً شاملٍاً أفقياً ورأسياً في هيكلها وبنيتها الدستورية، وفي بنية المؤسسات وعقائدها وتصوراتها للثوابت الوطنية والمجتمعية، والتي سخرت جميعها للسيطرة من خلال الضبط والأمن والبيروقراطية والمراقبة والتجنيد والهيمنة الثقافية، والتنشئة السياسية وتجميع المصالح والتحالفات على قاعدة الولاء، لتتحدد الغاية النهائية لوظائف الدولة بحماية السلطة وضمان استمرارها.
ولاستكمال مأسسة الاستبداد كان لابد من تأطير المجتمع وتقسيمه ضمن منظوماتٍ تدين بالولاء للسلطة وتدور في فلكها أو تتبع لها مباشرةً، وتشكل المسار الوحيد والإجباري للترقي الاجتماعي, أو للتعاطي في الشأن العام، فكانت المنظمات الشعبية لتفتيت الروابط الوطنية ووأد حيوية المجتمع واعتراض أي كيانٍ موازٍ أو بديل اجتماعي لمؤسسات الدولة/ السلطة، التي بدورها باتت مرجعية حصرية لكل التفاعلات الاجتماعية، يتواصل الناس حصراً عبر قنواتها المراقبة والمتحكم بها. فيما حزب البعث العربي الاشتراكي الفاعل الوحيد الذي فوضت إليه أمور الدولة والمجتمع, عبر منظمات رديفة للحزب ينتسب إليها السوري تلقائياً بمجرد دخوله المدرسة بـ “منظمة طلائع البعث” رديفته في المرحلة الابتدائية، و”اتحاد شبيبة الثورة” في المرحلتين الإعدادية والثانوية، أما مرحلة التعليم العالي, فكان الانتساب إلى الاتحاد الوطني لطلبة سوريا ذراع السلطة التنفيذية في الجامعة وأداتها لتشديد الرقابة على الطلبة والمدرسين, وتعميم إيديولوجيا البعث وتكريس السطوة الامنية التي تصاعدت في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت، وأفقدت الجامعات أدوارها العلمية والاجتماعية السابقة.
ويضاف لعسكرة الجامعة وانتهاكات حقوق الإنسان الواردة تفصيلاً في التقرير، والتي تورط فيها الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، أثره على دور الجامعات واستقلالها وسوية التعليم العالي، ودور النخب المثقفة والأكاديميين في المجتمع، إذ كان للوظيفة الأمنية التي رافقت تاريخه، وعلاقته العضوية مع السلطة، ولكونه المسار الإجباري الوحيد للتنظيم في الجامعات، أن حوّل الحركة الطلابية في سوريا إلى حركة مصنوعة على عين السلطة ومؤتمرة بأمرها، عاجزة عن التطور الى حركة إيجابية خارج أسوار الجامعة، بالتوازي مع توطين علاقات العنف المعلن أو المضمر داخل أسوارها، وتعطيل وسائل التعبير والحوار وتغييب الاعتبار لقيم المساواة و الكرامة الإنسانية والإرادة الحرة، ما أدى لإضعاف حيوية المجتمع وقابلية أبناءه اليوم لانتاج عقد اجتماعي بين مكوناته المختلفة أو تصورٍ مشترك عجز السوريون عن صياغته طوال عقدٍ على اندلاع الثورة، لما يتطلبه من واقع ثقافي واجتماعي وأدوارٍ للنخب والتعليم واحترام لروح القانون واتساعٍ لرقعة التسامح، وهي القيم التي غُيبَت عن مولدات الفعل السياسي والمواقع المجتمعية التي يتشكل في رحمها، وفي مقدمها الجامعة.
الاتحاد الوطني مارس دوره أيضاً في الاستبعاد الاجتماعي للطلبة وفي عملية العزل والتدجين الايديولوجي والثقافي، بأيديولوجية البعث التي جرى تعميمها في المناهج التعليمية لتكريس ظاهرة “عبادة الفرد” التي كانت وما تزال تتجاوز الشخص نفسه إلى آرائه السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية، باعتبارها البوصلة النظرية التي على الجميع أن يسيروا على هديها، والتي عاش السوريون بسببها حالة انقطاع شبه تام عن ثقافات العالم الخارجي وموجات الديمقراطية، بينما عاشت الجامعة السورية غياب المبادرة والنقد عن العملية التعليمية، لصالح التلقين والرؤية الواحدة وقمع العقل النقدي، وتكريس الدعاية القومية والخطاب الإقصائي والعقائدي، والتي لم تكن من نتيجتها فقط، حرمان أجيالٍ من التعليم النوعي بل تنمية وتكريس ضيق الأفق والتعصب، بينما يمضي العالم في دروب الانفتاح والعولمة.
مع انطلاق الحراك الشعبي ورغم السطوة الأمنية الشديدة والانتشار الواسع لشبكة المخبرين الذين يسهم الاتحاد بتجنيدهم لجمع البيانات والوشاية بزملائهم بهدف ملاحقتهم والتضييق عليهم وفصلهم من جامعاتهم، انخرط الطلبة في الاحتجاجات السلمية في الجامعات الحكومية والخاصة التي تعرضت لعمليات قمع واقتحامات وإطلاق نار حي وقتل لطلبة جامعيين، والتي تحول بعضها إلى ثكنات عسكرية بعد طرد مئات الطلبة من المساكن الجامعية، واستخدمت كمراكز لإطلاق القذائف والصواريخ على الأحياء المعارضة للحكومة. كما في جامعة البعث في حمص التي أطلقت منها القذائف الصاروخية على حي بابا عمرو القريب من المنطقة، فيما تحول اتحاد الطلبة إلى جهاز أمني شريك للأجهزة الأمنية الأخرى في قمع التظاهرات، إضافةً للتجسس على الطلبة والهيئات التعليمية، فيما فروعه في الخارج تراقب تحركات وأنشطة الطلاب السوريين هناك وتقيّدهم أو تلاحقهم عند عودتهم إلى البلاد, ومع تصاعد الاحتجاجات وامتدادها في الجامعات وخاصة جامعة حلب تحول الاتحاد لميليشا مسلحة تورط عناصرها بشكلٍ مستقل أو من خلال كتائب حزب البعث في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالاعتداءات الجسدية في المظاهرات.وملاحقة واعتقال آلاف الطلاب، الذين تعرَّض عدد كبير منهم للتعذيب االمفضي للموت أحياناً والإخفاء القسري واشكال العنف وسوء المعاملة ومجموعة من الانتهاكات واسعة النطاق التي سنبحثها تباعاً في فصول التقرير .