يقدم تقرير (المقبرة الجماعية، جورة الأحم: أبحث عن ولدي وأخشى أن أجده) الصادر عن مركز توثيق الانتهاكات في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير عينةً عن هذه الانتهاكات المركبة والمتشابكة في رقعة جغرافية لا تتجاوز أبعادها عشرات الأمتار في ناحية معرة مصرين في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، تحوي رفاة أكثر من 150 ضحية، من الممكن أن تكون قد تعرضت لانتهاكات الإعدام خارج نطاق القانون والاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب، قبل أن تندرج في عداد آلاف المفقودين الذين خلفهم النزاع، في ظل تعدد القوى المسيطرة وتغيرها، بين فصائل الجيش السوري الحر المختلفة، والتنظيمات المتطرفة كجبهة النصرة وغيرها، والتي تقدم صورةً عن مئات المواقع المشابهة في سوريا، ومؤشراً عن مدى تعقيد النزاع وهوية الأطراف الفاعلة فيه وتركيباتها، وضلوعها جميعاً في انتهاكات حقوق الإنسان، وإهدار قيمة الكرامة الإنسانية. كما تقدم هويات بعض الضحايا وولاءها الطائفي أو السياسي والذي كان سبباً كافياً لإعدامها لمحةً عن التداعيات الاجتماعية للنزاع والتي تعتبر الأخطر لتأثيراتها العميقة طويلة المدى، ومدى انعكاس فائض العنف الذي مارسته الحكومة بحق المدنيين، وتداعي الهوية الوطنية على مدى عقود، على العلاقات داخل المجتمع وعلى إنتاج العنف والتطبيع معه وتبريره تجاه الآخر، وعلى حال الانقسام الاجتماعي العميق الذي انتقل من الطور العمودي على طرفي النزاع ليمتد بانقساماتٍ فرعية غير منتهية.
كما يسلط التقرير الضوء على ملف المفقودين شديد الراهنية، بأضلاعه الثلاثة الإخفاء القسري والإعدام خارج إطار القانون والمقابر الجماعية كحفرة الموت التي حتى لو تعذرت معرفة هويات الجثث الموجودة فيها، فإن معرفة عددها والمسؤولين المباشرين وغير المباشرين عنها وكيف وصلت إلى هناك هو خطوة أساسية للتعامل مع ملف المقابر الجماعية، كقرينة تساعد على فهم الحدث السوري لا كردة فعل أو سلوكٍ آني بل بوصفه سلسلة من الجرائم المنظمة وفائضّ من العنف جرى قبوله وإعادة إنتاجه مراتٍ عديدة والتعامل معها أيضاً كدليل إدانة لا يمكن العبث بماهيته، ولا يفقد حجيته بالتقادم، فجرائم ستالين والمقابر الجماعية المنفذة في فترة التطهير الأعظم من 1937 حتى 1938 يتم التحقيق فيها واكتشافها حتى الآن، فيما تم عام 2008 الكشف عن مقابر الروس في الشيشان عام 1994 كذلك الحال في المقبرة الجماعية للانقلاب العسكري والغزو التركي لقبرص عام 1974، والتي لايزال التحقيق فيها مستمراً حتى يومنا هذا.
ينسجم التقرير مع رؤية المركز بأن الحق في معرفة الحقيقة حق أساسي لجميع السوريين وحقٍ للأجيال القادمة تكفله العهود والمواثيق الدولية، باعتباره حقاً للضحايا والناجين بمعرفة ظروف الإنتهاكات الخطيرة لحقوقهم، وهويّة المسؤول عنها، وحق لجميع أفراد المجتمع بمعرفة الحقيقة التي تشكل جزءاً من الذاكرة الوطنية يتوجب حمايتها من العبث ومن أي نوع من التلاعب في رواية الأحداث التاريخية، ما يضمن الاعتراف الجماعي بوقوع الانتهاكات وإطلاع الناجين والأجيال اللاحقة على الأحداث التي عانوا خلالها كمقدمة للمصالحة والعدالة الانتقالية كإحدى سبل طي صفحة الماضي والتصالح معه دون محوه أو محاولة نسيانه، وبأنه حقٌ غير قابل للتصرف ولا يمكن التنازل عنه ولا يسقط بالتقادم، ويشكل مع حقوق ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى خارطة طريق لتعافي المجتمع بكامله من آثارها. نتحدث هنا عن الحق في الإنصاف الذي يمنح الضحايا وبشكل فعلي إمكانية الدفاع عن أنفسهم ضد الانتهاكات، والحق في العدالة الذي ينطوي على معالجة سريعة وفعالة لوقف انتهاكات حقوق الإنسان، والتزام بمكافحة الإفلات من العقاب وتقديم الجناة إلى العدالة، والحق في جبر الضرر الذي يضمن في التعويض والإرجاع، وإعادة التأهيل والإرضاء، وضمانات عدم التكرار. فيما يلزم الحق في معرفة الحقيقة الدولة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وكشف هوية الجناة ومصير الضحايا، ويحسم الصراع حول التحكم في الذاكرة الوطنية ﺃﻭ الجماعية الذي ﻳﻘﻊ في صميم ﺳﻴﺎﺳﺎﺕ المحاسبة التي تعقب ﺣﺎﻻﺕ ﻣﺎ بعد انتهاء النزاعات ﺃﻭ سقوط ﺍلسلطة.
أخيراً، وفي إطاره العام، يندرج التقرير ضمن الجهد الحقوقي الهادف للضغط على أطراف النزاع ورعاتهم الإقليميين والدوليين لوقف الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، والشروع بمحاسبة الجناة والتصدي لمناخ الإفلات من العقاب. تبرز المقابر الجماعية كقرائن في المحاكمات ولجان تقصي الحقائق وإجراءات التعويض والشهادات التاريخية وغير ذلك من الآليات التي قد يتفق عليها السوريون مستقبلاً، والتي ينبغي التعامل معه بحذرٍ شديد كي لا يتم استغلالها ذريعةً للتطبيع مع مقولة أن جميع المفقودين في الحرب ماتوا، وتم دفنهم في مقابر جماعية.
لقراءة التقرير كاملاً: