سوريا ومحكمة العدل الدولية

سوريا ومحكمة العدل الدولية

 

أولاً: صلاحية محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالنظر في النزاعات بين الدول

محكمة العدل الدولية (المحكمة) هي الأداة القضائية الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة وذلك بموجب المادة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة (النظام، أو نظام المحكمة). وبموجب المادة 35(1) من النظام، تكون الدول وحدها أطرافاً في الدعاوى التي ترفع إلى المحكمة للفصل فيها، فيما تشمل ولاية المحكمة طبقاً للمادة 36(1) جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، وجميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق “الأمم المتحدة” أو في المعاهدات والاتفاقات السارية. وتنص المادة 36(6) من نظام المحكمة على أنه في حال قيام نزاع فيما يتعلق بولاية المحكمة، تفصل المحكمة في هذا النزاع بقرار.

تنظر المحكمة في المنازعات التي ترفع إليها وفقا لأحكام القانون الدولي (المادة 38)، وتطبق في هذا الشأن:

(أ) الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفا بها صراحة من جانب الدول المتنازعة؛

(ب) العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال (العرف الدولي)؛

(ج) مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة؛

(د) أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم، ويعتبر هذا أو ذاك مصدرا احتياطيا لقواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة 59.

ثانياً: التدابير المؤقتة

التدابير المؤقتة أو التحفظية منصوص عليها في المادة 41 من نظام المحكمة، حيث يجوز للمحكمة:

  1. أن تقرر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حق كل من الأطراف وذلك متى رأت أن الظروف تقضي بذلك.
  2. وريثما يصدر الحكم النهائي، يبلغ أطراف الدعوى ومجلس الأمن فوراً بالتدابير التي ترتئي المحكمة اتخاذها.

ثالثاً: سوابق قضائية

  1. البوسنة والهرسك ضد يوغوسلافيا (صربيا والجبل الأسود – مونتينغرو)

قدمت البوسنة والهرسك في 20 مارس/آذار 1993 دعوى لمحكمة العدل الدولية ضد يوغوسلافيا (صربيا والجبل الأسود) طلبت من المحكمة بموجبها إصدار أمر يقضي باتخاذ “تدابير مؤقتة” بشأن مواصلة انتهاك يوغوسلافيا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948. وقد ادعت البوسنة والهرسك حينها بأن يوغوسلافيا انتهكت ولا تزال تنتهك التزاماتها القانونية تجاه شعب ودولة البوسنة والهرسك بموجب اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977، وقوانين الحرب الدولية العرفية بما في ذلك أنظمة لاهاي بشأن الحرب البرية لعام 1907، والمبادئ الأساسية الأخرى للقانون الإنساني الدولي. وعليه، طلبت البوسنة والهرسك من المحكمة إلزام يوغوسلافيا ووكلائها وممثليها، بوقف انتهاكاتهم للالتزامات القانونية سالفة الذكر، والكف فوراً عن:

  • الممارسات المنهجية لما يسمى “التطهير العرقي” بحق مواطني البوسنة والهرسك؛
  • القتل والإعدام بإجراءات موجزة والتعذيب والاغتصاب والاختطاف والإصابة والاعتداء الجسدي والعقلي واحتجاز مواطني البوسنة والهرسك؛
  • التدمير العشوائي للقرى والبلدات والأحياء والمدن والمؤسسات الدينية في البوسنة والهرسك؛
  • قصف المناطق السكنية في البوسنة والهرسك، وخاصة العاصمة سراييفو، وعدم تجويع السكان المدنيين، والامتناع عن قطع إمدادات الإغاثة الإنسانية المخصصة لمواطني البوسنة والهرسك من قبل المجتمع الدولي أو تعويق وصولها إليهم.
  • الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة ضد سكان البوسنة والهرسك، سواء كانت بشكل مباشر أو غير مباشر، علناً أو سراً، 

وعلى ضوء ذلك، طلبت البوسنة والهرسك من المحكمة حماية الحقوق القانونية لسكان البوسنة والهرسك من خلال فرض التدابير المؤقتة التالية:

  1. حق مواطني البوسنة والهرسك في العيش كشعب ودولة؛

(ب) حق شعب البوسنة والهرسك في الحياة والحرية والأمن، فضلاً عن التمتع بالحقوق الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948؛

(ج) الوقف الفوري لأفعال الإبادة الجماعية التي ترتكبها يوغوسلافيا بحق شعب البوسنة والهرسك؛

(د) امتناع يوغوسلافيا عن استخدام القوة ضد شعب البوسنة والهرسك، وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير المصير ضمن دولة ذات سيادة، بوصفها حقوقاً ذات صفة آمرة.

وقد أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها بهذا الخصوص في 8 أبريل/نيسان 1993، وأعطت أمراً يقضي باتخاذ تدابير مؤقتة تكفل الحماية لشعب البوسنة والهرسك في وجه ممارسات دولة يوغوسلافيا المستمرة بحقهم، ريثما يتم الانتهاء من النظر في القضية.

  1. غامبيا ضد ميانمار

في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، رفعت غامبيا دعوى في محكمة العدل الدولية ضد ميانمار لارتكاب الإخيرة أفعال الإبادة الجماعية، والقتل الجماعي، والاغتصاب الجماعي بحق أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار، منتهكة بذلك أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. وحيث أن غامبيا وميانمار عضوان في الأمم المتحدة، فكلاهما ملزمتان بأحكام النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. ومن هذا المنطلق، فإن للمحكمة اختصاص النظر في المطالبات المقدمة من قبل غامبيا ضد ميانمار، عملاً بالمادة 36(1) من النظام الأساسي للمحكمة التي تنص على أن ولاية المحكمة تشمل جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، وجميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق “الأمم المتحدة” أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها. 

قدمت غامبيا الدعوى وفقاً لأحكام المادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 والتي تنص على أنه: “تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة”. وتحدد المادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الأفعال التي تستدعي المعاقبة عليها، وهي:

  1. الإبادة الجماعية؛
  2. التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛
  3. التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛
  4. محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛
  5. الاشتراك في الإبادة الجماعية.

ومن جملة من استندت إليه غامبيا في الدعوى، أن حظر الإبادة الجماعية يحمل صفة القواعد الآمرة تجاه الكافة في تنفيذ التزاماتهم الناشئة عن اتفاقية الإبادة الجماعية، مما يقتضي تحميل ميانمار المسؤولية الكاملة بموجب القانون الدولي عن أفعال الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد جماعة الروهينجا، وواجب المحكمة ضمان أقصى حماية ممكنة لأبناء الروهينغا الذين لا يزالون عرضة لانتهاكات جسيمة جراء أعمال الإبادة الجماعية.

 

عززت غامبيا الدعوى بالعديد من الحقائق التي تشهد على ارتكاب حكومة ميانمار أفعال الإبادة الجماعية بحق اقلية الروهينغا المسلمة، وبضمنها الاستناد إلى استنتاجات بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن وجود أدلة على نية الإبادة الجماعية، تتمثل بالحرمان من الحقوق القانونية لجماعة الروهينغا، و”تسامح سلطات ميانمار مع الخطاب العام للكراهية وازدراء الروهينجا”، وتحريض حكومة ميانمار على الكراهية المعادية لروهينغيا وشيطنة الجماعة، بتصويرها على أنها تشكل “تهديد، ليس فقط للمجتمعات البوذية المحلية، ولكن أيضًا للأمة وطابعها البوذي ككل”.

 

ومن جملة ما توصلت إليه بعثة تقصي الحقائق أن الحزب الوطني الثوري الديمقراطي “امتدح هتلر، وأيد الأفعال اللاإنسانية” بوصفها “ضرورية أحيانًا للحفاظ على السياق”. وقد جاهر هذا الحزب بأنه على الرغم من أن هتلر وإيخمان كانا أعظم أعداء اليهود، إلا أنهما ربما كانا أبطال للألمان. وكان على أمريكا إسقاط القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي. لماذا ؟ إذا كان يُسمح أحيانًا للأفعال اللاإنسانية بالحفاظ على عرق وبلد وسيادة… فإن مساعينا للحفاظ على عرق راخين وسيادة اتحاد ميانمار وطول عمره لا يمكن وصفها بأنها غير إنسانية.

 

ادعت غامبيا أن حكومة ميانمار قد انتهكت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 بقيامها بالأفعال التالية:

 

  • ارتكاب الإبادة الجماعية في انتهاك للمادة الثالثة؛
  • التآمر على ارتكاب إبادة جماعية بالمخالفة للمادة الثالثة؛
  • التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية في انتهاك للمادة الثالثة؛
  • محاولة ارتكاب إبادة جماعية بالمخالفة للمادة الثالثة؛
  • التواطؤ في الإبادة الجماعية في انتهاك للمادة الثالثة؛
  • الفشل في منع الإبادة الجماعية في انتهاك للمادة الأولى؛
  • عدم معاقبة الإبادة الجماعية في انتهاك للمواد الأولى والرابعة والسادسة؛ 
  • عدم سن التشريعات اللازمة لإنفاذ أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية وفرض عقوبات فعالة على الأشخاص المذنبين بارتكاب إبادة جماعية أو على أي من الأفعال المذكورة في المادة الثالثة.

 

وعلى ضوء هذه الادعاءات، طلبت غامبيا من المحكمة أن تقضي بخرق ميانمار لالتزاماتها الناشئة عن اتفاقية منع الإبادة الجماعية؛ أن تامر ميانمار بالوقف الفوري لأفعال الإبادة الجماعية والامتناع عن ارتكابها في المستقبل؛ التأكد من معاقبة الأشخاص الذين يرتكبون الإبادة الجماعية من قبل محكمة مختصة، بما في ذلك أمام محكمة جنائية دولية؛ جبر الضرر لضحايا أعمال الإبادة الجماعية من الروهينجا؛ السماح بالعودة الآمنة والكريمة للمهجرين الروهينجا قسراً؛ احترام مواطنتهم الكاملة وحقوقهم الإنسانية، وحمايتهم ضد التمييز والاضطهاد والأفعال الأخرى ذات الصلة؛ تقديم ضمانات وتعهدات بعدم تكرار انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية.

 

وفي سياق ذلك، طلبت غامبيا من المحكمة أن تصدر حكماً يقضي باتخاذ “تدابير مؤقتة – Provisional Measures “ بموجب المادة 41 من نظام المحكمة، من أجل الوقف الفوري لأعمال الإبادة الجماعية للروهينغا، وحماية حقوق هذه الجماعة بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وبالتالي منع تفاقم هذه الأفعال، في انتظار حكم المحكمة النهائي”. وينبغي التأكيد على أن أوامر الإجراءات المؤقتة لمحكمة العدل الدولية ملزمة قانونا للأطراف، حيث أن اعتراف ميانمار الصريح بسلطة محكمة العدل الدولية يلزمها بالامتثال لأوامر المحكمة وقراراتها. وعليه، طلبت غامبيا وفقا للمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة والمواد 73 و74 و75 من لائحة المحكمة، اتخاذ تدابير مؤقتة، وعلى وجه السرعة، حفاظاً على حقوق الروهينغا، ولدرء الضرر المستمر والخطير الذي لا يمكن إصلاحه. وقد طلبت غامبيا ضمن التدابير المؤقتة وقف ميانمار لكافة أفعال الإبادة الجماعية، والكف عن انتهاك حقوق الروهينغا، ومساءلة مرتكبي الجرائم.

 

في 23 كانون الثاني/يناير 2020 أصدرت المحكمة حكماً يقضي باتخاذ تدابير مؤقتة، تلزم حكومة ميانمار بالوقف الفوري لأعمال الإبادة الجماعية ضد مسلمي الروهينغا، واتخاذ الخطوات الكفيلة بالحفاظ على الأدلة. وقد أصدرت المحكمة أمراً بإجماع القضاة يطالب حكومة ميانمار بمنع جميع أعمال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية، وضمان عدم ارتكاب جيشها للإبادة الجماعية، إضافة لاتخاذ تدابير فعالة للحفاظ على الأدلة المتعلقة بقضية الإبادة الجماعية، وتقديم تقرير عن تنفيذها للأمر خلال أربعة أشهر، ثم كل ستة أشهر بعد ذلك. يشار إلى أن هذا الأمر لا يشكل حكم مسبق بخصوص مسألة اختصاص المحكمة للنظر في الأسس الموضوعية للقضية، أو مقبولية القضية أمام المحكمة، أو الأسس الموضوعية لادعاء غامبيا بأن ميانمار انتهكت أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، إذ قد يستغرق التداول في هذه المسائل المعروضة أمام المحكمة أو إصدار حكم بشأنها عدة سنوات.

إذ تنص المادة 41(2) من نظام المحكمة على وجوب رفع أوامر المحكمة بالتدابير المؤقتة تلقائيا إلى مجلس الأمن الدولي، فأنه من شأنه ذلك أن يؤدي إلى زيادة الضغط على المجلس لاتخاذ إجراءات ملموسة في ميانمار، بما في ذلك قراراً ملزماً لحمل حكومة ميانمار على رفع القيود المفروضة على حرية الروهينغا في التنقل، وإزالة القيود على وصول المساعدات الإنسانية، وإلغاء القوانين التمييزية، وحظر الممارسات التي تحد من وصول الروهينغا إلى التعليم، وتوفير الرعاية الصحية وسبل العيش الكريم لهم، ومحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة. لكن تبقى المشكلة في توافق أعضاء مجلس الأمن الدائمين حول هذا الأمر، وامتناع الدول دائمة العضوية في المجلس عن استخدام حق الفيتو لاعتبارات سياسية. 

رابعاً: حالة سوريا

محكمة العدل الدولية ليست محكمة جنائية، بل أعلى هيئة قضائية دولية، تمتلك صلاحية الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الدول بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقيات الدولية من قبل الدول (الأطراف) المتعاقدة. وعلى ضوء تجارب الدول الأخرى، والسوابق القضائية للمحكمة، وفاعلية التدابير المؤقتة على وجه الخصوص، ينبغي البدء باتخاذ خطوات عملية لتقديم دعاوى للمحكمة للنظر في التبعات القانونية للجرائم المستمرة التي ترتكبها الحكومة السورية وأجهزتها الأمنية والعسكرية كجريمة التعذيب، وجريمة الإبادة الجماعية، والاستخدام المتواصل للأسلحة والمواد الكيميائية، وغيرها من الجرائم، التي تشكل انتهاكات للمعاهدات الدولية الملزمة لأطراف النزاع. كما أنه يمكن التفكير جدياً الطلب من المحكمة أن تنظر في الجرائم التي يرتكبها أطراف النزاع الفاعلين على الأرض السورية كروسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الامريكية وغيرهم، وبضمنها جريمة التعذيب، وجريمة الإبادة الجماعية، والاستخدام المتواصل للأسلحة والمواد الكيميائية، وغيرها من الجرائم، التي تشكل انتهاكات للمعاهدات الدولية الملزمة لأطراف النزاع. 

 

كخطوة أولى، يفترض إجراء مسح للاتفاقيات الدولية الملزمة بالنسبة لسوريا، وبموازاة ذلك، التواصل مع دولة أو مجموعة دول تراعي حقوق الانسان (المجموعة الاوروبية، كندا، استراليا، نيوزيلندا) قد تكون معنية برفع دعوى ضد الحكومة السورية، لكونهم أطرافاً متعاقدين في هذه الاتفاقيات (نظام محكمة العدل الدولية، المواد 35(1)، 36(1)، 36(6)، 38،،41، 60). وسيكون من شأن هذه الدعوى أو مجموعة الدعاوى، وما قد تفضي إليه من أحكام تقضي باتخاذ تدابير مؤقتة، في حمل المجتمع الدولي لردع هذه الجرائم من خلال إجبار الحكومة السورية على وقفها، والسماح للجان التحقيق من الوصول لمناطق سيطرتها للتحقيق في هذه الجرائم، مما سيسرع في محاكمة المجرمين. بالإضافة لذلك، من الضرورة بمكان التفكير في جدوى رفع دعوى شاملة تطلب من المحكمة تكييف الجرائم المرتكبة في سوريا في ضوء القانون الدولي، والاتفاقيات الدولية، وذلك استناداً إلى المعلومات المتوفرة من قبل لجنة التحقيق المستقلة، وآلية الدولية المحايدة (IIIM)، ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وسائر منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية. ويتمثل الهدف من الدعوى الشاملة في تكييف أعلى قضائية دولية الانتهاكات الجسيمة في سوريا، بالإضافة لحمل مجلس الأمن الوفاء بالتزاماته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتأمين الحماية للسوريين ومحاسبة مرتكبي الجرائم، ومطالبة الدول الوفاء بالتزاماتها المتمثلة بتفعيل مبدأ القضائية العالمية.

  1. جريمة الإبادة الجماعية

الزعم بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في سوريا هو بمثابة تحد كبير، يستدعي توافر الأدلة الكافية لإقناع هيئة محكمة العدل الدولية بوجود ممارسات تثبت نية أو قصد الحكومة السورية في الإبادة. إذ يمكن الادعاء بأن الحكومة السورية ترتكب أعمال إبادة جماعية، بإمعانها في حرمان مجموعات محددة من الشعب السوري، بصفتهم تلك، من حقوقهم القانونية، ووضعهم في ظروف معيشية صعبة من خلال الحصار، واستهدافهم بالقصف، بما في ذلك القصف المتواصل بالأسلحة والمواد الكيميائية، ومنع مساعدات الإغاثة الطبية والغذائية عنهم في سبيل فرض الاستسلام، ومن ثم تهجيرهم القسري، بالإضافة لدعم وتشجيع حملات الكراهية المتفشية في سوريا، التي تستهدف التحريض على أفراد الجماعة وشيطنتها وتجريدها من إنسانيتها.

وفي هذه الحالة، يتعين إقناع هيئة المحكمة بأن أعمال التهجير القسري تستهدف، تغيير التركيبة السكانية للمناطق في سياق سياسة هندسة ديمغرافية ممنهجة، وحصار جماعات محددة واستهدافهم بالقصف، وتدمير البلدات والمدن والقرى وإلحاق الدمار بها، والقتل خارج نطاق القانون، ووضع السكان في ظروف معيشية صعبة، بما في ذلك التجويع، بقصد تدمير الجماعة كلياً أو جزئياً، واستهداف النساء الأطفال، وارتكاب الاغتصاب والعنف الجنسي، أينما وجد.

ويمكن الادعاء أيضاً بأن الحكومة السورية تلجأ إلى ممارسات قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية جراء الاعتقالات التعسفية واسعة النطاق لعشرات أو مئات آلاف النشطاء السلميين والمعارضين لسياسة الحكومة وإخضاعهم لكافة أشكال التعذيب وإساءة المعاملة، مما أدى لمقتل عشرات آلاف المعتقلين، في حين ما زال مصير ما يزيد عن 100 ألف معتقل مجهولاً بحكم تعرضهم للإخفاء القسري. ويستوجب إقناع المحكمة في الحالة الحالة بأن الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والموت تحت التعذيب هو سياسة ممنهجة، استهدفت الحكومة السورية من خلال شريحة واسعة النطاق من المعارضين لسياسات الحكومة السورية، وذلك بهدف القضاء على هذه الشريحة الواسعة من السكان أو إسكاتها أو إقصائها، فقط لأن أفرادها تجرأوا على معارضة الحكومة السورية والاحتجاج في الشوارع للمطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

من المسلم به أن ممارسات مسؤولي ميانمار بحق الروهينغا ترتقي إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية، إلا أن كثيرون يعتقدون بأن الانتهاكات في حالة سوريا لا ترتقي إلى مستوى جريمة الإبادة، باستثناء جرائم “داعش” ضد الايزيديين. لكن هذا لا يحول دون تقديم دعوى (حالة اختبار – Test Case) للمحكمة، تتضمن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وبشكل خاص من خلال الاستخدام المتواتر للأسلحة والمواد الكيميائية. ومن هذا المنطلق، يعتقد المركز السوري للإعلام وحرية التعبير بأن هناك أسس معقولة للربط بين سياسة الاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري والحصار والقصف والتجويع لفرض الاستسلام بهدف التهجير القسري لمجموعات إثنية أو قومية أو دينية أو عرقية سورية، بوصفها أفعالاً ترتقي إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية بقصد القضاء على مجموعات معينة أو تدميرها. 

في الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 3 شباط/فبراير 2015 بشأن تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (كرواتيا ضد صربيا)، لم تخلص المحكمة إلى وجود نمط سلوك يدل على قصد الإبادة الجماعية (الفقرات 508 – 514)، حيث خلص أكثرية القضاة إلى النتيجة التالية: 

“لا تستطيع المحكمة أن ترى في نمط سلوك السلطات الكرواتية، قبل عملية “العاصفة” مباشرة، وأثناءها، وبعدها سلسلة من الأفعال التي يمكن فهمها بشكل معقول على أنها تعبرعن أن قصد تلك السلطات هو التدمير المادي لجماعة الصرب المقيمين في كرواتيا بصورة كلية أو جزئية. وكما ذكرت المحكمة بالفعل، فأنه لم يثبت في حقيقة الأمر وقوع جميع الأفعال التي زعمت صربيا أنها تشكل العنصر المادي للإبادة. أما تلك الأفعال التي ثبت – وخاصة قتل المدنيين وسوء معاملة الأفراد العزل – فلم ترتكب بالقدر الذي يمكن أن يشير إلى وجود قصد الإبادة الجماعية. واخيراً، حتى لو كانت ادعاءات صربيا صحيحة فيما يتعلق برفض السماح للاجئين الصرب بالعودة إلى ديارهم – وهي ادعاءات تنفيها كرواتيا – فأن هذا لم يثبت أيضاً وجود القصد المحدد: فالإبادة الجماعية تفترض قصد تدمير جماعة ما على هذا النحو، وليس إلحاق أضراراً بها أو إبعادها من منطقة ما، بصرف النظر عن كيفية توصيف القانون لمثل هذه الأعمال”. وقد استنتجت المحكمة أنه “مما تقدم لم يثبت وجود القصد المحدد. وبناءً على ذلك، ترى المحكمة أنه لم يثبت ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أثناء عملية العاصفة وبعدها ضد السكان الصرب في كرواتيا”.

لكن كان هنالك آراء مخالفة لبعض القضاة في الوصول لهذا الاستنتاج. فالقاضي كاتسادو ترينيداد عرض في هذه القضية رأيه المخالف، والمكون من 19 جزءاً، وهي تتضمن الأسس التي بنى عليها موقفه المخالف لقرار أغلبية قضاة المحكمة، إذ يقول القاضي كاتسادو:

“.. وتجلى ايضاً نمط التدمير الواسع النطاق والمنهجي في التهجير القسري للأشخاص والمشردين، وإخضاع الضحايا لظروف معيشية لا يمكن احتمالها. وتضمن أيضاً هذا النمط من التدمير والذي أشير إليه بشكل عام، تدمير التراث الثقافي والديني (الآثار، والكنائس، والمعابد، وجدران المدينة..)؛ وسيكون من قبيل الزيف محاولة فصل التدمير المادي/البيولوجي عن التدمير الثقافي”. ويضيف القاضي كاتسادو: “أنه يتضح من الأدلة التي عرضت أمام المحكمة فيما يتعلق بقرى مختارة دمرت – وهي لوفاس، وإيلوك، وبوغدانوفيتشي، وفوكوفار (في منطقة سلوفينيا الشرقية)، وسابوروسكو (في منطقة ليكا) – أنه قد ثبت الفعل الجنائي للإبادة الجماعية (المادة الثاني(أ) و(ب) و(ج) من اتفاقية الإبادة الجماعية). وعلاوة على ذلك، فأنه يمكن الاستدلال عن قصد تدمير الجماعات المستهدفة كلياً او جزئياً، (وهو القصد الإجرامي)، من الأدلة المقدمة (حتى وإن لم تكن ادلة مباشرة. ويعد العنف المفرط في ارتكاب الأعمال الوحشية في إطار نمط التدمير المخطط شاهداً على ذلك القصد من التدمير”. ويضيف القاضي كانسادو:

” في تقديري، أن التقييمات المبنية على أدلة لا يمكن أن تبتعد عن الاهتمامات الخاصة بالتقييم. فالقيم الإنسانية موجودة دائماً، على النحو المعترف به من خلال الظهور التاريخي لمبدأ الإدانة الصريحة من جانب القاضي. فالحقائق والقيم تظهر معاً في التقييمات المبنية على الأدلة. ويتم الاستدلال على القصد الإجرامي أو القصد المحدد من أجل تحديد المسؤولية عن الإبادة الجماعية، كما في الإدانة الصريحة من جانب القاضي، ومن الضمير الانساني”. وينتصر الضمير في نهاية المطاف، ويتكلم بصوت أعلى من أي إملاء متعمد، وتتعلق الأدلة المعروضة على محكمة العدل الدولية بالسلوك العام للدولة المعنية، وليس بسلوك أي من الأفراد.

من هنا، يمكن الاستدلال أن تقديم دعوى لمحكمة العدل الدولية، تتضمن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في سوريا، له ما يسنده في القانون وفي الواقع، بحكم عنف النزاع المسلح، وأمد النزاع، ووحشية المتحاربين، وبشكل خاص الحكومة السورية. ويمكن القول أن الربط بين الحصار والتجويع والقصف والاستسلام ومن ثم التهجير القسري وتهديد المسؤولين السوريين المهجرين بعدم العودة (تصريح عصام زهرالدين، تصريح بشار الأسد فيما يتعلق بإيجاد المجتمع المتجانس في سوريا)، مسألة تستحق عناء ربطها المباشر بجريمة الإبادة الجماعية، فضلاً عن أن الاستخدام المتكرر للأسلحة والمواد الكيميائية من قبل القوات الحكومية بمواجهة المدنيين، يمثل سبباً كافياً لإثبات قصد الإبادة الجماعية. وعلاوة على ذلك، فأن نشر التقرير الأول لفريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في الثامن من نيسان/ أبريل 2020، والذي يتضمن تحليلات وعدد كبير من الأدلة، تشير إلى مسؤولية سلاح الجو السوري عن ثلاث حوادث استخدم في السلاح الكيميائي في سوريا في منطقة اللطامنة في 24، 25، 30 آذار/ مارس 2017، يعزز من فرضية وجود نمط سلوك إلى الاستدلال إلى توافر القصد الإجرامي لدى الحكومة السورية لتحديد مسؤوليتها عن الإبادة الجماعية. 

  1. اتفاقية مناهضة التعذيب

مثال آخر على دعوى لمحكمة العدل الدولية هو اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، والاتفاق الدولي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006. وتتضمن هاتان الاتفاقيتان أحكاماً، تمكن الدول الأطراف تقديم دعوى للمحكمة ضد دولة طرف أخرى، بخصوص ارتكابها جرائم منصوص عليها في تلك المعاهدات إبان النزاع المسلح في سوريا.

في 19 فبراير 2009، قدمت بلجيكا في قلم المحكمة طلبًا لإقامة دعوى ضد جمهورية السنغال، فيما يتعلق بنزاع بشأن “وفاء السنغال بالتزامها بموجب اتفاقية حظر التعذيب ومقاضاة حسين حبري (الرئيس السابق لجمهورية تشاد) أو تسليمه إلى بلجيكا لأغراض الإجراءات الجنائية” كما هو منصوص عليه في اتفاقية حظر التعذيب. واستندت بلجيكا في ادعاءاتها على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة المؤرخة 10 كانون الأول / ديسمبر 1984 (اتفاقية حظر التعذيب أو الاتفاقية)، وكذلك على أحكام وقواعد القانون الدولي العرفي. وقد استندت بلجيكا في طلبها، كأساس لاختصاص المحكمة، إلى الفقرة 1 من المادة 30 من اتفاقية حظر التعذيب، والإعلانات الصادرة بموجب الفقرة 2 من المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، من قبل بلجيكا في 17 يونيو 1958 والسنغال في 2 ديسمبر 1985. 

تنص المادة 30(1) من اتفاقية مناهضة التعذيب على أنه: 

“أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول فيما يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو تنفيذها ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يطرح للتحكيم بناء على طلب إحدى هذه الدول. فإذا لم تتمكن الأطراف في غضون ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الموافقة على تنظيم التحكيم، يجوز لأي من تلك الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بتقديم طلب وفقا للنظام الأساسي لهذه المحكمة”.

في 19 شباط/فبراير 2009، طلبت بلجيكا، استناداً إلى المادة 41 من النظام الأساسي والمواد 73 و74 و75 من لائحة المحكمة، اتخاذ تدابير مؤقتة، ريثما يصدر حكم نهائي بشأن الأسس الموضوعية، تطلب من السنغال اتخاذ جميع الخطوات التي هي في حدود سلطتها لإبقاء حسين حبري تحت سيطرة ومراقبة السلطات القضائية في السنغال بحيث يمكن تطبيق قواعد القانون الدولي التي تطلب بلجيكا الامتثال لها بشكل صحيح.

طلبت بلجيكا من المحكمة أن تقرر وتعلن ما يلي: 

  • للمحكمة اختصاص للنظر في النزاع بين بلجيكا وجمهورية السنغال بشأن امتثال السنغال لالتزامها بمحاكمة حسين حبري أو تسليمه إلى بلجيكا لأغراض الإجراءات الجنائية؛
  • مقبولية مطالبة بلجيكا؛
  • إن جمهورية السنغال ملزمة برفع دعاوى جنائية ضد حسين حبري على أفعال تشمل جرائم التعذيب والجرائم ضد الإنسانية التي يُدَّعى أنه ارتكبها أو شارك فيها أو شارك فيها؛
  • في حالة عدم ملاحقة حسين حبري، فإن جمهورية السنغال ملزمة بتسليمه إلى بلجيكا لفسح المجال لرفع دعوى على هذه الجرائم أمام المحاكم البلجيكية.

وطلبت بلجيكا بموجب المذكرة التي قدمتها إلى محكمة العدل الدولية أن تقرر وتعلن ما يلي: 

  • أن السنغال قد أخلت بالتزاماتها الدولية بعدم إدراج الأحكام اللازمة في قانونها المحلي لتمكين السلطات القضائية السنغالية لممارسة الولاية القضائية العالمية المنصوص عليها في الفقرة 2 من المادة 5 من اتفاقية حظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة؛
  • أن السنغال انتهكت، ولا تزال تخل بالتزاماتها الدولية بموجب الفقرة 2 من المادة 6 والفقرة 1 من المادة 7 لاتفاقية حظر التعذيب، وبموجب القانون الدولي العرفي، من خلال عدم اتخاذ إجراءات جنائية ضد حسين حبري فيما يتعلق بأفعال وجرائم التعذيب والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، كمرتكب أو شريك، أو تسليمه إلى بلجيكا لأغراض مثل هذه الإجراءات الجنائية.

السنغال اعتبرت بدورها أن مطالب بلجيكا غير المشروعة دولياً، وطلبت من المحكمة رفض القضية.

وقد خلصت المحكمة إلى أنه يوجد نزاع بين بلجيكا والسنغال بخصوص تفسير وتنفيذ بنود اتفاقية حظر التعذيب، وأنه يتعين على المحكمة أن تنظر ما إذا كان هناك أساس قانوني للولاية القضائية فيما يتعلق بالنزاع المتعلق بتفسير وتطبيق الفقرة 2 من المادة 6 والفقرة 1 من المادة 7 من الاتفاقية.

وقد خلصت المحكمة إلى أن بلجيكا، بوصفها دولة طرفاً في اتفاقية مناهضة التعذيب، لها الحق في الادعاء بمسؤولية السنغال عن الانتهاكات المزعومة لالتزاماتها بموجب المادة 6(2) والمادة 7(1) من الاتفاقية في الإجراءات الحالية. ولذلك، فإن مطالبات بلجيكا على أساس هذه الأحكام مقبولة. وقد وجدت المحكمة أن السلطات السنغالية لم تشرع فوراً في تحقيق أولي بمجرد توفر الوقائع للاشتباه في أن حسين حبري، الموجود في أراضيها، بأنه مسؤول عن أعمال التعذيب، وبذلك تكون السنغال قد أخلت بالتزامها بموجب المادة 6(2) من اتفاقية مناهضة التعذيب.

تنص المادة 7(1) من اتفاقية حظر التعذيب على أنه:

“تقوم الدولة الطرف التي يوجد في الإقليم الخاضع لولايتها القضائية شخص يدعى ارتكابه لأي من الجرائم المنصوص عليها في المادة 4 في الحالات التي تتوخاها المادة 5، بعرض القضية على سلطاتها المختصة بقصد تقديم الشخص للمحاكمة، إذا لم تقم بتسليمه”.

وقد فسرت المحكمة هذه المادة على انه إذا تلقت الدولة التي يوجد المشتبه فيه في إقليمها طلباً يقضي بتسليم في أي من الحالات المتوخاة في أحكام الاتفاقية، يمكنها حينها أن تعفي نفسها من التزامها بالمحاكمة من خلال الانضمام إلى هذا الطلب. ويترتب على ذلك أن الاختيار بين التسليم أو إخضاع المتهم للمحاكمة، وفقا لأحكام الاتفاقية، ولا يعني ذلك أنه يجب إعطاء البديلين نفس الوزن. فالتسليم هو خيار تقدمه الدول الأطراف لبعضها البعض بموجب الاتفاقية، في حين أن الملاحقة القضائية التزام دولي بموجب الاتفاقية، وانتهاكها هو فعل غير مشروع، ويترتب عليه مسؤولية الدولة.

وترى المحكمة أن الالتزام المنصوص عليه في المادة 7(1) يقتضي من السنغال اتخاذ جميع التدابير اللازمة لتنفيذه في أقرب وقت ممكن، ولا سيما بمجرد تقديم الشكوى الأولى ضد حسين حبري في عام 2000. بعد أن أخفقت في القيام بذلك، تكون السنغال خرقت ولا تزال تخرق التزاماتها بموجب المادة 7(1) من الاتفاقية.

تنص المادة 5(2) من اتفاقية حظر التعذيب على أن “تتخذ كل دولة طرف بالمثل ما يلزم من الإجراءات لإقامة ولايتها القضائية على هذه الجرائم في الحالات التي يكون فيها مرتكب الجريمة المزعوم موجودا في أي إقليم يخضع لولاياتها القضائية ولا تقوم بتسليمه عملا بالمادة 8 إلى أية دولة من الدول التي ورد ذكرها في الفقرة 1 من هذه المادة”. 

خلصت المحكمة بناءً على ما سبق، إلى أنه في حال واصلت السنغال الامتناع عن امتثال لالتزاماتها بموجب الفقرة المادة 6(2) والمادة 7(1) من الاتفاقية، فإنها تتحمل مسؤوليتها الدولية. وبالتالي، يتعين على السنغال الكف عن هذا الفعل المستمر وغير المشروع، وفقاً للقانون الدولي العام بشأن مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً. ولذلك يجب على السنغال أن تتخذ دون مزيد من التأخير التدابير اللازمة لتقديم القضية إلى سلطاتها المختصة لغرض المقاضاة، أو أن تقم بتسليم حسين حبري.

يتضح مما سبق، أن تقديم دعوى لمحكمة العدل الدولية بخصوص جرائم التعذيب الممنهجة والقتل جراء التعذيب والإخفاء القسري التي ترتكبها الحكومة السورية على نطاق واسع لها ما يسندها في القانون وفي الواقع. إذ أن هنالك ما يزيد عن مائة ألف شخص ممن تم اعتقالهم وتغييبهم وإخضاعهم لمختلف صنوف التعذيب والإخفاء القسري. ويمكن في هذه الحالة مطالبة محكمة العدل الدولية بإلزام الحكومة السورية، وتأمين وصول ممثلي لجنة التحقيق المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية، وممثلي الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق في الجرائم الأشد خطورة المرتكبة في سوريا منذ آذار/مارس 2011، والتحقق من السجون السورية، وتأمين ظروف مواتية لعملهم المتمثل بالتحقيق، وجمع الادلة حول الوضع في سوريا لاستخدامها في أية محاكمات طارئة أو مستقبلية للمجرمين.

 

التدابير المؤقتة أو التحفظية ” التعذيب “

ورد النص على صلاحية محكمة العدل الدولية في اتخاذ ماتراه مناسبا من التدابير المؤقتة أو التحفظية في المادة 41 من النظام الأساسي. وجاء فيها أنه للمحكمة أن تقرر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حق كل من الأطراف، متى رأت أن الظروف تقتضي ذلك. وقد جاء النص بهذا الشأن عاماً ومطلقاً، وبالتالي تستطيع هذه المحكمة اتخاذ ما تشاء من التدابير المؤقتة سواء لحفظ حقوق الأطراف أو بسبب ظروف الدعوى.

أوضحت اللائحة الداخلية لمحكمة العدل الدولية في موادها من 73 إلى 78 طبيعة التدابير المؤقتة وكيفية اتخاذها، وذلك تحت عنوان (التدابير التحفظية)، حيث يجوز لأي طرف في أي وقت أثناء النظر في الدعوى طلب التدابير التحفظية، على أن تنظر المحكمة بشكل فوري بهذا الطلب. كما أنه للمحكمة أن تقرر التدابير التحفظية من تلقاء نفسها وبدون طلب. ويبلغ القرار الذي تتخذه المحكمة فيما يتعلق بالتدابير التحفظية فوراً للأمين العام للأمم المتحدة لإحالته إلى مجلس الأمن.

الغاية من اتخاذ التدابير المؤقتة:

1 – حماية حقوق أطراف النزاع.

2 – حفظ أدلة الإثبات.

3 – منع تفاقم النزاع.

4 – ضمان تنفيذ الحكم النهائي.

 ووفقاً لهذه المحددات وبعد تأسيس الدعوى على اتفاقية مناهضة التعذيب وبالاضافة لما يمكن أن تقرره المحكمة من تلقاء ذاتها من إجراءات , وبالاطلاع على إجراءات تحفظية قررتها المحكمة في سوابق قضائية واسقاطها على الحالة السورية وعلى التزامات سوريا بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب. يمكن أن تكون النقاط التالية محلا لاجراءات وقتية يتم الطلب من المحكمة لاتخاذ القرار بشأنها: 

  1. وقف تنفيذ كل أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم السورية منذ العام 2011 وخاصة تلك الصادرة عن محاكم الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب  كون هذه الأحكام استندت الى اعترافات انتزعت تحت التعذيب.
  2. تشكيل لجنة أممية من الخبراء ومنحها اختصاص التفتيش والتحقق لضمان وقف كافة اشكال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي تتم في مراكز الاحتجاز والسجون السورية الرسمية وغير الرسمية والزام الحكومة السورية بالتصريح عن كافة مراكز الاحتجاز.
  3. اعتبار سوء الأوضاع داخل مراكز الاحتجاز والسجون ومنع الرعاية الصحية عن المعتقلين شكل من أشكال التعذيب والعمل فورا على تحسين هذه الشروط وضمان الرعاية الصحية للمعتقلين وفقا لقواعد مانديلا.
  4. الطلب الى الحكومة السورية  ضمان حفظ الأدلة المتعلقة بجرائم التعذيب لدى أي جهة كانت ومنع إتلافها أو اعاقة الوصول اليها وخاصة تلك المتعلقة بالضحايا الذين قضوا تحت التعذيب، وبالمقابر الفردية والجماعية، وعينات ال DNA.
  5. إلزام الحكومة السورية تسليم المحكمة قوائم بأسماء المعتقلين الذين تم الحكم عليهم بالإعدام، وبأولئك الذين تم تنفيذ أحكام بحقهم، ومن لم تنفذ بحقهم هذه الأحكام، وأن تكون هذه القوائم مصحوبة بكافة الوثائق الموجودة لدى المحاكم  التي اصدرت الاحكام.
  6. إلزام الحكومة السورية تسليم المحكمة قوائم بأسماء المعتقلين الذين قامت السلطات السورية باحتجازهم ومن لا يزالون قيد الاحتجاز، وقوائم بأسماء المعتقلين الذين لقوا حتفهم أثناء الاعتقال.
  7. الطلب من الحكومة السورية المسارعة فورا الى اصدار قرارات الوقف عن العمل واحالة كل من يشتبه بارتكابه جريمة التعذيب أو محاولة ممارستها أو الضلوع فيها أو التواطئ و المشاركة في ارتكابها الى القضاء وتقديمه الى محاكمة علنية وعادلة (بناء على الفقرة الرابعة من الاتفاقية)، ورفض أي تذرع بظروف استثنائية – حالة الحرب – (بناء على الفقرة 2 مادة 2)، ورفض محاولات التذرع بكون الأوامر صادرة من موظفين أعلى أو سلطة عامة ( الفقرة 3 مادة 2).
  8. الطلب من الحكومة السورية وعلى وجه السرعة بتوفيق قوانينها مع الالتزامات المترتبة عليها بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، وإلغاء المراسيم التي تمنح الحصانة من المحاسبة لمسؤولي وعناصر أجهزة الأمن عن  الجرائم المرتكبة أثناء الخدمة، وهو ما يفضي من الناحية العملية إلى استمرار عمليات التعذيب ويعزز ظاهرة الإفلات من العقاب على الجرائم التي يرتكبها أفراد أجهزة الأمن ووكالات الاستخبارات والشرطة، والغاء كافة المراسيم والاوامر التي تمنع محاكمتهم ( المرسوم 14 لعام 1969 على سبيل المثال).

هل من الممكن المطالبة بتسليم المشتبه بهم لدول أخرى أطراف في الاتفاقية من أجل محاكمتهم؟

الأمر جائز من حيث المبدأ وذلك بموجب المادة الثامنة من الاتفاقية، والتي تنص على ما يلي:

  1. تعتبر الجرائم المشار إليها في المادة 4 جرائم قابلة لتسليم مرتكبيها في أية معاهدة لتسليم المجرمين تكون قائمة بين الدول الأطراف. وتتعهد الدول الأطراف بإدراج هذه الجرائم كجرائم قابلة لتسليم مرتكبيها في كل معاهدة تسليم تبرم بينها.
  2. إذا تسلمت دولة طرف طلبا للتسليم من دولة لا تربطها بها معاهدة لتسليم المجرمين، وكانت الدولة الأولى تجعل التسليم مشروطا بوجود معاهدة لتسليم المجرمين، يجوز لهذه الدولة اعتبار هذه الاتفاقية أساسا قانونيا للتسليم فيما يختص بمثل هذه الجرائم. ويخضع التسليم للشروط الأخرى المنصوص عليها في قانون الدولة التي يقدم إليها طلب التسليم. 
  3. تعترف الدول الأطراف التي لا تجعل التسليم مرهونا بوجود معاهدة بأن هذه الجرائم قابلة لتسليم مرتكبيها فيما بينها طبقا للشروط المنصوص عليها في قانون الدولة التي يقدم إليها طلب التسليم.
  4. وتتم معاملة هذه الجرائم، لأغراض التسليم بين الدول الأطراف، كما لو أنها اقترفت لا في المكان الذي حدثت فيه فحسب، بل أيضا في أراضى الدول المطالبة بإقامة ولايتها القضائية طبقا للفقرة 1 من المادة 5.

 

من الواضح أن الاتفاقية تلزم الدول الأطراف من حيث المبدأ السماح بتسليم مرتكبي التعذيب. إذ يتعين على الدول بموجب المادة 8(1) أن تدرج جريمة التعذيب في اتفاقات التسليم الخاصة بها باعتبارها جريمة يجوز تسليم مرتكبيها، مع الالتزام بمبدأ حظر الإعادة القسرية إذا توافرت لدى الدولة الطرف أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأن الشخص المنوي تسليمه سيكون في خطر التعرض للتعذيب (المادة 3 من الاتفاقية). ووفقاً لأحكام المادة 8(2) من الاتفاقية، قد لا لا يكون تسليم المتهمين بارتكاب جرائم التعذيب منوطاً بوجود معاهدة تقضي بتسليم المجرمين، إذ من الممكن الاستناد إلى أحكام الاتفاقية كأساس قانوني لعملية التسليم.

 

على سبيل المثال: يلزم قانون الإجراءات الجنائية في لوكسمبورغ السلطات إما تسليم الجاني المزعوم أو محاكمته. 

وينص قانون حظر التعذيب ومنعه المعمول به في في جزر المالديف على مبدأ إدراج جريمة التعذيب في اتفاقيات تسليم المجرمين، وأنه في حال عدم وجود اتفاقية لتسليم المجرمين، فإنه ينبغي اعتبار اتفاقية مناهضة التعذيب بمثابة الأساس لتسليم المجرمين بين الدول.