النباشون: صراع من أجل الكفاف

النباشون: صراع من أجل الكفاف
تحقيق استقصائي يكشف معاناة نبّاشي القمامة في سوريا بين المرض والفقر والتهميش

عباس علي موسى – علي الدالاتي
القامشلي – إدلب

في تمام الساعة الخامسة والربع مساءً بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر 2024، استهدف الطيران الحربي الروسي، مناطق عدة في إدلب، كان من بين المناطق المستهدفة منطقة قريبة على مبعدة أمتار فقط من مكبّ نفايات الهباط بريف إدلب، لكن لم يؤثر ذلك على “أبو عارف” الذي يكسب قوت عيشه من النبش في هذا المكبّ.

وغابت شمس ذلك اليوم أيضا، دون أن تتزحزح عائلة “أبو عارف” حتى أنّهم عاودوا العمل في جمع القمامة بعد يوم واحد من القصف، فـ “الحياة صعبة”. تقول الزوجة أم عارف “جلّ ما أخشاه أن يأخذ القدر أحد أطفالي وهو جائع، فهم ينامون في الكثير من الأحيان دون عشاء وأحيانا دون فطور أيضا”.

عائلة “أبو عارف” ليست الوحيدة التي تعمل في “البحث بين النفايات”، أو كما يُطلق عليهم العامة: “النبّاشون” ، ففي كلّ زاوية ستجدُ العشرات ممن قادتهم ظروف الحياة القاسية للعمل في نبش القمامة، وبين أكوامها يصبح الخطر هو القاعدة، والطعام رفاهية نادرة، وعلى ذات الجغرافيا وتحديداً في “منقار البط” وهو التسمية اللطيفة التشبيهية لمحافظة الحسكة على الخارطة، وفي مدينة القامشلي، لا يبدو الأمر مختلفاً كثيراً.

فيّاض، وهو أحد نبّاشي القمامة، والذي يعيش بحي بأطراف المدينة من الجهة الجنوبية، لم يُحالفه الحظّ في تغيير مصيره، فهو يعمل في نبش القمامة منذ كان طفلاً، ولم ينتهي الأمر بعد أن صار أبا لخمس أطفال، ورغم أنّ فياض يعاني من مشاكل صحيّة ناتجة عن طبيعة العمل، حيثُ أصيب بالتقرّحات والالتهابات الجلدية (الأكزيما) والربو بسبب بيئة العمل غير النظيفة إلّا أنّه يُكافح في هذا العمل متحمّلاً كلّ مشاقّه وصعوباته هذا العمل سواء من نظرة المجتمع أو الأمراض وقيظ الصيف وبرد الشتاء، يقول بصوت منهك: “تعوّدت على نظرات الناس وعلى صعوبة العمل، لكنّ الجوع أقسى.”

التقى معدّا التحقيق مع 43 نبّاشا (بين تاريخ 22 وحتى 30 تشرين الأول/أكتوبر 2024) لغرض إعداد هذا التحقيق، من إدلب والقامشلي ميدانياً، حيث قال 53 % منهم أنّهم تعرّضوا لإصابات مباشرة أثناء العمل ، بعضهم لمرة أو أكثر، وتبيّن من الإجابات أنّ هذه الإصابات لم تكن كلّها نتيجة التعامل مع البلور أو المواد الجارحة، بل كانت بعضها لأمراض مزمنة ومُصاحبة مثل الأكزيما والربو وصعوبات التنفّس، حيث كانت بعض الإصابات سابقة زاد العمل في النبش من تهيّجها، وبعضها ظهر مع الوقت جرّاء العمل في النبش.

وما يزيد من صعوبة هذا العمل “غير مصنّف وبالتالي لا توجد لهؤلاء العاملين في النبش أي نقابات أو اتحادات للمطالبة بحمايتهم سواء في القانون السوري أو قانون الإدارة الذاتية” بحسب المحامي والناشط المدني علي إسكان، كما أنّهم غير مصنّفين في مناطق إدلب أيضا، وعلى الرغم من عدم منع عملهم، إلا أنّ هناك مضايقات لعملهم مجتمعيا أحيانا كما أدلى نبّاشون (من الجنسين) في مقابلات معدّي التحقيق.

بين إدلب والقامشلي، وغيرها من مدن سوريا حتما، تتكرّر هذه القصص الموجعة، التي توضح كيف تحوّلت أكوام القمامة إلى مصدر دخل لكثيرين دفعتهم الحاجة لمواجهة مخاطر الأمراض والنبذ الاجتماعي. في هذا التحقيق، نسلط الضوء على ظاهرة “النباشين”، لتصبح رمزاً للفقر المدقع والانهيار الاقتصادي الذي يعيشه كثير من أفراد الشعب السوري. كيف يقضون يومهم؟ وكيف يؤثّر احتكاكهم اليومي بالنفايات على صحة هذه الفئة؟ وما الذي يدفعهم لتحمل هذا العمل الشاق والخطير؟ وما أثّر هذه الظاهرة على المجتمع والبيئة؟ 

صورة تمّ التقاطها من قبل معدّ التحقيق من خيمة “أبو عارف” تُظهر استهدافاً على مقربة من مكبّ الهباط للقمامة.

شبح المرض

تشير الدراسات الطبية إلى أنّ الإنسان يمتلك قدرة فطرية على التكيّف مع الروائح المحيطة، بما في ذلك الروائح الكريهة، من خلال ما يُعرف بـ”التكيف الحسّي”. يُفسَّر هذا التكيّف بأنّه عملية تقوم بها المستقبلات الحسية في الأنف لتقليل الاستجابة التدريجية للرائحة بعد التعرّض المستمّر لها لفترة من الوقت.

على الرغم من أنّ هذا التكيّف قد يساعد في تقليل شعور الإزعاج، إلّا أنّه قد يُشكّل خطورة في بعض الحالات، مثل عدم انتباه الإنسان لوجود غازات سامّة أو مواد ضارة في محيطه بسبب التعود على رائحتها. 

يُعاني “النبّاشون” نتيجة احتكاكهم مع النفايات المنوّعة من أمراض متعدّدة، إلا أنّ أكثرها شيوعا هي الأمراض التنفسية، تليها الأمراض الجلدية، حيث قال 32 % من عينة البحث التي أجراها معدّا التحقيق مع نبّاشين في إدلب والقامشلي، أنّهم يُعانون من مشاكل تنفسية، شملت الربو وصعوبات في التنفّس، حيث يؤكّد طبيب الأمراض الصدرية والتنفسية “أحمد بيوش” أنّ التعامل مع الروائح الكريهة للنبّاشين في المكبات وأوساط النفايات يؤدي إلى الإصابة بالأمراض الرئوية، من خلال الهجمات الحادة أو الأمراض المزمنة التي تتفاقم بسبب التعرّض الطويل لهذه الظروف.

فيديو مقابلة مع الدكتور أحمد بيوش 

مقابلة مع الدكتور أحمد بيوش طبيب الأمراض الصدرية والتنفسية ضمن تحقيق النباشون: صراع من أجل الكفاف

ولا يلتزم هؤلاء العاملون في هذا القطاع بزيارة الطبيب، حيث تبيّن من نتائج الاستبيان أنّ 65 % لم يُراجعوا الطبيب، مع أنّهم أكّدوا إصابتهم بالأمراض، ويعود السبب إلى ضعف “الثقافة الصحية” لدى قطاع من الأعمال ومنها ذات النظرة الاجتماعية الدونية كالنبش والعمل في النفايات، يقول فيّاض الذي التقيناه أثناء عمله لعدّة مرات في القامشلي، “صارت معنا مناعة”، ومع أنّ فيّاض يلفّ وجهه غالبا بوشاح، إلا أنّها غالبا متعلّقة بجوانب اجتماعية كعدم التعرّف عليه من قبل المجتمع، وتجنّب الحرج، لكن مع ذلك فإنّ فيّاض يُعاني من الربو، ومشاكل تنفسية، وفي المرة التالية التي التقيناه فيها، قال بأنّه راجع الطبيب مرة أو مرتين، ولم يتسنّى لمعدّ التحقيق التأكد من إصابته بالربو، بسبب عدم إبراز ما يثبت ذلك، إلا أنّ السُعال المتكرّر أثناء اللقاءات يؤكد إصابته بمشاكل تنفسية كبيرة، وخاصّة لشخص غير مدخّن.

لكنّ الأخطر بحسب طبيب الأمراض الصدرية والتنفسية “أحمد بيوش” يتمثّل في أنّ التعرض المزمن للروائح المنبعثة من أماكن القمامة يمكن أن يؤدي إلى التهاب القصبات المزمن، وهو عامل مؤهل للإصابة بسرطان الرئة. فالتعرض لهذه الغازات المسرطنة يماثل تأثير التدخين أو التعرض لأبخرة السيارات والمصانع، مما يزيد من خطر أمراض الجهاز التنفسي.

وفق بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، التابع للأمم المتحدة «OCHA»، فإن ما لا يقل عن 4300 مريض بالسرطان يقيمون في إدلب، معظمهم يعانون من سرطان الثدي والرئة.

وقد أكّد معاون المدير العام لمشفى البيروني “محمد العواك”، وهو المشفى الذي يستقبل حوالي 70 % من حالات السرطان على مستوى البلاد، في تصريح إعلامي يعود لنيسان 2024 أنّ الإصابات بسرطان الرئة والقصبات يمثّل 15 % من حالات السرطان الشائعة التي تم قبولها في المشفى بين عامي 2022 – 2023، وهو ما يأتي في المرتبة الثانية بعد سرطان الثدي، وإذا ما علمنا أنّه تم استقبال نحو 12 ألف مريض في هذه الفترة، فهذا يعني أنّ نحو 1800 حالة منها هي لحالات سرطان الرئة والقصبات. 

                       الشكل (1) ويُظهر حالات المرض التي تعرّض لها العاملون في نبش القمامة

             الشكل (2) ويُظهر الحالات التي قام فيها العاملون في نبش القمامة بزيارة المريض

ومع أنّ الأمراض الرئوية والتنفسية تُعدّ الأصعب، إلّا أنّ عدم استخدام القفازات أو ما يقي اليدين، بالنسبة للعاملين في نبش القمامة يؤدّي إلى أمراض جلدية متعدّدة كالتحسسات الجلدية والجرب والأكزيما، وغيرها من الأمراض، حيث تؤكد الأخصائية بالأمراض الجلدية الطبيبة “رحاب عمر” أن “الأمراض الانتانية الناتجة عن الفطريات والطفيليات والجراثيم” هي الأكثر شيوعاً أثناء الاحتكاك بالنفايات، وحالات “الإصابة بالقوباء، التي تظهر على شكل قرح جلدية على الوجه أو اليدين، وكذلك انتشار الجرب، الذي يؤثر بشكل خاص على الأطفال وعائلاتهم، ويزداد إذا كان أحد أفراد العائلة يعمل في هذه المهنة”.

الطبيبة الأخصائية بالأمراض الجلدية رحاب عمر تقول أن “الأمراض الانتانية الناتجة عن الفطريات والطفيليات والجراثيم” هي الأكثر شيوعاً أثناء الاحتكاك بالنفايات”.

لكنّ الأخطر في عمل النبش في القمامة ربما لا يظهر بمجرّد سنة ولا سنتين، حيث يواجه العاملون مخاطر صحية كبيرة، تشمل زيادة احتمالية الإصابة بأمراض مزمنة وسرطانية نتيجة ظروف العمل، فالأمر “يُشبه سرطان الرئة بالنسبة للمدخنين، فالسرطان لا يظهر في السيجارة الأولى والثانية، وإنما هي عملية تراكمية”، بهذا المثال يُقارب أخصائي أمراض الدم والأورام السرطانية الطبيب “ملهم خليل”، ويقول بشكل واضح أنّ هناك “علاقة واضحة بين هذا العمل والتعرّض لمواد ضارّة وسامّة. فالتعرض للأبخرة السامة، المواد الكيميائية، أو مخلفات الحرب، مثل البنزين والمشتقات البترولية، يمكن أن يؤدي إلى حدوث أمراض دموية أو سرطانات الدم. أمّا التعرض المستمر للمواد التي تسبب تهيّج الجلد، فقد يؤدّي إلى تطور سرطان الجلد. استنشاق الروائح والأدخنة في هذه الأماكن يرفع أيضاً من احتمالات الإصابة بسرطان الرئة”.
فيديو مقابلة مع الدكتور ملهم خليل

مقابلة مع الدكتور ملهم خليل أخصائي أمراض الدم والأورام السرطانية ضمن تحقيق النباشون: صراع من أجل الكفاف

يؤكّد الطبيب خليل “كأطباء مختصين في الأورام السرطانية، نلاحظ أنّ التعرّض لعوامل مسرطنة لا يؤدّي إلى ظهور السرطان بشكل فوري؛ وقد تظهر الاضطرابات الدموية بعد سنة أو سنتين من التعرض المستمر للمواد المسرطنة”.

وهذه المؤشرات خطيرة، تجعل من حياة العاملين في نبش القمامة معرّضة للسرطانات على المدى المتوسط والطويل، وخاصة أنّ معظمهم لا يجد عملاً بديلاً بسبب الظروف الاقتصادية السيئة، حيث قال 34 % ممن تمّ إجراء المسح عليهم أنّهم سيتسمرون في هذا العمل، بينما قال 34 % آخرين أنّهما ربما يستمرون في هذا العمل، طالما أنّهم لا يملكون خيارات أخرى.

واحتلت سوريا بحسب مكتب شرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية “إمرو” المركز الخامس عربياً في حالات السرطان المنتشرة، ومع أنّ ترتيبها عالمياً هو 96 إلا أنّ التوقّعات تُشير إلى أنّ منطقة شرق البحر المتوسط ستشهد أعلى نسبة إصابة بالسرطانات بحلول 2030.

يسدّ الرمق
“أبو عارف” والذي يقطن في مخيّم التح بريف إدلب ويعمل مع عائلته المكونة من زوجة وثمانية أطفال في نبش القمامة، إلا أنّ عمله المحفوف بالمخاطر والصعوبات، بالكاد يسدّ رمقه وعائلته، حيث يقول بأنّه يبيع ما يجمعه بحوالي 50 إلى 60 ليرة (تتعامل مناطق إدلب الخاضعة للمعارضة السورية بالليرة التركية)، وهي ما تساوي أقل من دولارين، وهذا المبلغ نادراً ما تغطي ثمن الخبز وبعض الخضار، ويتم بيعها في العادة لنقاط بيع متنقلة أو بعض النقاط الأخرى القريبة من المكب نفسه، والذين يقومون بدورهم إلى بيعها لمعامل تعيد تدوير البلاستيك والنحاس وغيره.

يخرج أبو عارف رفقة بعض أبناءه للبحث في المكبّ الواسع، الذي يمثّل مساحة أكثر من 77 ألف متر مربع، بحثاً عما يُمكن بيعه، من بلاستيك ونحاس وغيرها من المواد، إلّا أنّه لا يوفّق بشكل دائم في الحصول على ما يسدّ رمقه وعائلته، فضلاً عن حدوث قصف في المنطقة المحيطة، حيث رصد معدّ التحقيق قصف موقع بالقرب من المكبّ أثناء إعداد التحقيق، ما يجعلها مهنة محفوفة بالمخاطر وبشكل لا يتناسب مع الوارد المالي الضعيف الذي يكسبه أبو عارف وغيره من العاملين في النبش.

تعيش العائلة في خيمة بالقرب من المكب، وتقول أنّه تم طردهم من أماكن ينبشون فيها القمامة سابقاً، وأنّهم تعرّضوا لإهانات متكرّرة، إلا أنّ شظف العيش يفرض عليهم الاستمرار، وهي ظاهرة تتكرّر في العديد من المناطق السورية بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

وكانت إدلب تعجّ بمئات المكبات العشوائية، قبل أن يتم تجميعها في 17 مكبّا مركزيا بالمدينة وريفها، ومنها مكبّ الهبّاط الذي تعتاش من النبش فيه عائلة أبو عارف وغيره من نباشي القمامة.

ويمثّل البلاستيك والنحاس حديد الخردة وبدرجات أقل الكرتون والصفائح أكثر ما يبحث عنه النباشون، ويضطر هؤلاء النباشون للعمل ما بين ست إلى ثمان ساعات يوميّاً لجمع كمية كافية من أجل تحصيل يومياتهم.

بالعودة الى القامشلي حيث يواجه فيّاض أيضًا مشاكل صحية ناتجة عن طبيعة العمل، فقد أصيب بالتقرحات والالتهابات الجلدية (الأكزيما) والربو بسبب بيئة العمل غير النظيفة، حيث يقوم بجمع النفايات من الحاويات والشوارع دون توفر وسائل الحماية مثل القفازات، أمّا عن الأقنعة، فهو يغطي وجهه بوشاح، يؤكّد أنّه لا يستخدمها للوقاية، (ما أحب الناس تعرفني) يضحك (صاير معنا مناعة)، ومع أنّه يعلم أنّه ليس لديه مناعة، إذ أنّ إصاباته الجلدية والتنفسية، ناتجة عن تعامله مع النفايات، إلا أنّه مستمرّ في البحث عما يُمكن أن يباع، فهو يجمع حوالي 10 إلى 15 كغ من البلاستيك وغيرها من المواد القابلة للبيع كالنحاس وبعض المعدن القابل للبيع وعلب الصفيح للمشروبات الغازية، كما يقوم بجمع بقايا الطعام والخبز اليابس لحيواناته.

بعض أسعار المواد التي يجمعها النباشون في محافظة الحسكة. المصدر: تقرير لمنظمة CA-SYR 

وفي لقاءات أجراها معدّ التحقيق مع نباشين ونقاط بيع المواد المُجمّعة، تم التوصل إلى أنّ متوسط سعر 1 كغ من مختلف المواد هو حوالي 4 آلاف ليرة في أيلول/ديسمبر 2024 

 بين عامي 2021 و2024، ارتفع عدد مراكز جمع النفايات في مدينة الحسكة من 8 مراكز إلى 46 مركزا، توزعت على أحياء المدينة ومحيطها، المصدر: تقرير لمنظمة CA-SYR 

تستغرق عملية البحث على دراجته النارية أكثر من خمس ساعات في قيظ الصيف والبرد القارس في الشتاء، يتنقل فيها ما بين الأسواق الشعبية المتنقلة، والحاويات في الشوارع، ويقصد بالدرجة الرئيسية، شارع السياحي وشارع الحسكة وعامودا، قبل أن يعرّج على أحد النقاط التي تشتري هذه المواد، حيث تم رصد أكثر من ثمان نقاط لشراء البلاستيك والعلب المعدنية والنحاس في مدينة القامشلي الذين يقومون بكبس المواد المعدنية، وفرم البلاستيك وشحنها إلى منبج وحلب، ويوفر له هذا العمل يوميا حوالي 50 ألف ليرة سورية (ما يعادل ما بين 3.5 دولارات تقريبا)، وهو مبلغ بالكاد يكفيه، إلا أنّه يقول أنّ (هذا العمل أفضل من التسوّل، وأفضل من الكثير من الأعمال الأخرى) ويجعله يكظم غيظه ويغض طرفه عن صعوبات العمل.

كانت مدينة القامشلي تمتلك مكبّا مركزياً ضخماً في محيط المدينة يُدعى مكبّ رودكو والذي كان يستقبل حوالي 300 طن من القمامة يومياً، تم ترحيله وإغلاقه صيف 2021، بعد إنشاء مطمر مركزي ضخم في منطقة جنوبي بلدة الهول، وفي ذلك الوقت كان نباشو القمامة يتوجهون إلى هناك، وبعد عملية الترحيل اضطر النباشون للعمل في البحث داخل الحاويات داخل الأحياء وعلى الشوارع.

فيّاض (25 عاما)، رفض تصويره بشكل مباشر، تم اللقاء معه من قبل معدّ التحقيق لأكثر من مرة، ولا يكتفي فيّاض بالتجوال على الحاويات، بل يعرّج على داخل الأحياء وعلى الزوايا التي تُجمع فيها القمامة ولا يتم ترحيلها إلا بعد يومين أو ثلاثة، في حين يتم تفريغ الحاويات يوميا في الطرقات الرئيسية.

وبحسب تقارير البنك الدولي للعام 2024، فإنّ المحافظات في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا تُسجّل أعلى معدّل لانتشار الفقر، ويعرض القسم الخاص من التقرير لمحة سريعة عن النتائج الرئيسية لتقرير رفاه الأسر السورية، ففي عام 2022، طال الفقر 69% من السكان في سوريا، أي نحو 14.5 مليون سوري، وعلى الرغم من عدم وجود الفقر المدقع فعلياً قبل اندلاع الصراع، لكنه طال أكثر من واحد من كل أربعة سوريين في عام 2022، بينما توضح المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية إلى عمق الأزمة التي يعيشها السوريون، حيث يبلغ نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي بسوريا هو 560 دولارا سنويا فقط، مما يضع غالبية السكان تحت خط الفقر ويجعل تلبية الاحتياجات الأساسية شبه مستحيلة. وربما زاد حدة وشدة بسبب الآثار المدمرة لزلزال فبراير/شباط 2023.

وزادت معدّلات التضخم في البلاد، حيث أنّ الليرة السورية تدهورت بشكل مهول وخاصة ما بين كانون الثاني/يناير 2021 إلى أكثر من 15000 ليرة سورية للدولار الواحد في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بزيادة تقارب 420%..

وفي محافظة الحسكة زادت ضربات المسيّرات التركيّة والطيران التركي على البنى التحتية شملت محطات الكهرباء والنفط على واقع الخدمات العام، وأثّر على الاستقرار بشكل كبير بحدّ وصف تقرير لهيومن رايتس ووتش، ما أثر على الحركة الاقتصادية الهشة أصلا، وبالمثل أثّرت الضربات الجوية الروسية والحكومة السورية على مناطق إدلب بشكل كبير على الاستقرار وأضعفت سوق العمل وفق تقارير يُضاف إليها تأثيرات الزلزال المدمّر شباط 2023 ونتائجها الكارثية وخاصة على مناطق واسعة من إدلب.

قوانين ولكن!

لا يعتبر نبش القمامة عملاً رسمياً، وبالتالي فإنه لا يتبع أي جهة قانونية أو تنظيمية، حيث أشارت المحامية والناشطة المدنية روجين حبو إلى أنّ “ظاهرة النبش غير مصنّفة لكن لا يُمكن التغاضي عنها لأنّها موجودة، وانتشارها مفهوم، بسبب عوامل عدة أهمّها الفقر والحالة الاقتصادية المزرية”. وتضيف حبو: “مساعدة هؤلاء النباشين يمكن أن تكون فعّالة عبر دمجهم مع منظومة النظافة، مثل استقطابهم للعمل كعاملي نظافة أو توظيفهم في معامل إعادة التدوير، وينبغي أن يتم ذلك بالتعاون مع المنظمات المدنية”.

وفي لقاء مع شركة كومبوست بإدلب والتي تعمد إلى تحويل القمامة العضوية المنزلية إلى سماد كومبوست، والذي يتضمن فرزا كذلك للنفايات، قالت الشركة أنّها وظّفت أكثر من 30 عاملا، لكنها اختارت عائلات أكثر احتياجا، لكن وبالنظر إلى العاملين في نبش القمامة، لا يُنظر إليهم كبديل للعمال، حيث لا يتم التفكير فيهم لتأمين فرص عمل قريبة من عملهم كفرز القمامة في هذه الشركات، وغيرها.

وعلى الرغم من تواصل معدّ التحقيق شركة النظافة آي كلين ووزارة الإدارة المحلية ومكتب العلاقات الحكومية بوزارة الإعلام (التابعة لحكومة الإنقاذ)، المعنية مباشرة بموضوع النفايات وغيرها، للحصول على إجابات حول قضية إدارة النفايات ونبش القمامة وغيرها، إلا أنّهم قاموا بالتسويف لأكثر من مرة، وفي النهاية التنصّل من اللقاء.

في مدينة القامشلي فإنّ أعداد النباشين كبيرة بطبيعة الحال، حيث قال صاحب أحد نقاط شراء المواد من النباشين رفض ذكر اسمه أنّ هناك ما لا يقل عن 300 نبّاش في منطقته، في الجهة الجنوبية للمدينة وحدها. وعلى الرغم من عدم التعرّض لنباشي القمامة، إلا أنّه يُنظر إليه بشكل عام كعمل غير لائق، فتم إصدار قرار من بلدية الحسكة بمصادرة الحيوانات التي كان يتم استخدامها لنبش وجمع القمامة من قبل النباشين.

في العام 2022 تم إنشاء مكتب رعاية الطفولة بهيئة الإدارة المحلية لمقاطعة الجزيرة (في الإدارة الذاتية)، وعمدت منذ ذلك الوقت إلى ملاحقة الأطفال النبّاشين والمتسولين والمشرّدين في الشوارع، يعتبر فرج عثمان وهو الرئيس المشترك للمكتب أنّ النبش بالنسبة للأطفال من الأعمال الشائنة فهي فضلا عن دورها الكبير في التسرب المدرسي تعتبر بيئة لاستغلال الأطفال وتعرّضهم حتى للاستغلال الجنسي وغيره، وقد تم حتى الآن اتباع نظام يقوم على تجميع الأطفال الذين يقومون بالنبش في مراكز تجميع وكتابة تعهد خطي من قبل أهل الطفل في المرة الأولى والتحويل لـ مركز خاص بالأطفال ولا يتم السماح لهم بزيارة أهلهم حتى انقضاء المدة المحددة، والتي تمتد من شهرين وحتى ستة أشهر بحسب تكرار الحالات، ويرى عثمان أن هذا الأمر ناجع، حيث أنّه تم توثيق اسم 2256 طفلا في المرة الأولى، ولم يعاود سوى 215 منهم النبش في المرة الثانية لتنخفض إلى 33 في المرة الثالثة وثلاث حالات فقط للمرة الرابعة.

الصفحة الرسمية لمركز رعاية الطفولة، يستقبل المركز الأطفال الذين عاودوا العمل في النبش أو التسول بعد التعهّد الخطي من الأهل في المرة الثانية، وتختلف المدة ما بين ثلاث إلى ستة أشهر تبعا للتكرار، وبحسب الرئيس المشترك لمكتب الرعاية، فإنّه يستقبل في الحالة القصوى 30 حالة، تنخفض حتى عشر حالات وأحيانا أقل.

وبناء على ملاحظة معدّ التحقيق، فإنّ الأطفال النباشين بالفعل قد قلّوا بشكل ملحوظ بعد أن كانوا منتشرين بكثرة في مدينة القامشلي، إلا أنّ تقريرا أصدره منظمة (مركز الأزمات – سوريا – CA-SYR ) استهدف صناعة جمع النفايات في مدينة الحسكة وركز على عمالة الأطفال في النبش بين أعوام 2021 – 2024 ، قال بأنّ الإجراءات المختلفة التي اتخذتها الإدارة الذاتية، فشلت في تحقيق أهدافها لعدة أسباب، أولها وأهمها أنها لم تعالج الأسباب الجذرية لعمالة الأطفال، وتوصّل التقرير إلى أنّ عمالة الأطفال في نبش القمامة في الحسكة بات أكثر تنظيما يعتمد على تشغيل الأطفال ضمن مجموعات يقودها متعهّد (شاويش) يعمد إلى نقل الأطفال إلى الأحياء لنبش القمامة ويستبدلهم بآخرين.

هناك مئات الحالات في ريف إدلب والقامشلي لمُعيلي عائلات (من البالغين) كما في قصة أبو عارف وفياض يعملون في نبش القمامة كمصدر رزق لا بديل له على الأقل في الوقت الراهن، حيث التقى معدّا التحقيق مع 43 شخصا يعملون في نبش القمامة من رجال ونساء، قال 68 % منهم أنّهم سيستمرون في هذا العمل أو كانوا متردّدين في الإجابة على خيار (ربما)، بينما قال 32 % فقط أنّهم لا يفكرون في الاستمرار بهذا العمل، وهو أمر يعكس قلّة الحيلة والصعوبات الاقتصادية الكبيرة التي تدفع بالبعض إلى أعمال النبش.

وبحسب المقابلات التي تم إجراؤها من قبل معدّي التحقيق، فإنّ نظرة المجتمع تعدّ أحد أكثر الأمور تأثيرا على العاملين في نبش القمامة هي نظرة المجتمع، حيث قال 44 % أنّ نظرة المجتمع هي نظرة اشمئزاز وشفقة، بينما قال 49 % أنّ المجتمع لا يكترث لهم بتاتا.

وغالبا ما يتم النظر إلى النباشين في الشوارع نظرة تكاد تُساوي المتسولين في الشوارع، وهو يُفسّر ربما التعامل القانوني من مكتب رعاية الطفولة حيث يتم المساواة بين المتسولين والنباشين، وهذا الأمر يجعل هذه المهنة محفوفة بالمزيد من المصاعب والضغوطات النفسية.

ويرى الناشط المدني والمحامي علي إسكان أنّ الوضع الاقتصادي الذي يدفع البعض إلى العمل في نبش القمامة، يؤدي إلى إنخراط الأطفال وأحيانا كامل العائلة في أعمال النبش، وهي سلوكيات محفوفة بالمزيد من المخاطر نفسية وجسدية وصحية، ويرى إسكان أنّه ينبغي التعامل مع الظاهرة بغية الحد منها وإنهائها، عبر حزمة تدابير قانونية صارمة إلى جانب برامج لتعزيز الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، ومنها توفير الفرص عمل بديلة كجزء من الحلول الاقتصادية، بحيث يحصل الأفراد على دخل ثابت ومصدر رزق، وبالتالي تقليل الحاجة للبحث عن المواد القابلة لإعادة التدوير في القمامة، كأن يتم توظيفهم في سلك النظافة أو معامل إعادة التدوير.

إن ظاهرة “النبّاشين” لا تمثّل مجرد معاناة مجموعة صغيرة من الناس، بل هي رمز للفقر المُدقع والانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يعصف بسوريا. بين أكوام القمامة، تتشابك قصص الجوع والصبر مع إهمال قانوني ومجتمعي يزيد من تفاقم المأساة. ومع استمرار الظروف الحالية، فإنّ الخطر يمتد ليشمل ليس فقط صحة العاملين في هذا المجال، بل أيضا صحة المجتمع والبيئة. 

إن مواجهة هذا الواقع المؤلم تتطلب تدخلاً عاجلاً وشاملاً من الجهات المعنية لتوفير فرص عمل بديلة وتنظيم قطاع إعادة التدوير بما يضمن العدالة والحماية للجميع. ربما حان الوقت لأن نتوقف عن النظر إلى النباشين بعين الشفقة أو الاشمئزاز، وأن نبدأ في النظر إلى جذور المشكلة وحلولها الممكنة.

هذا التحقيق جزء من مشروع ينفذه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ونُشر في مجلة صور بتاريخ مجلة صور بتاريخ 17 شباط / فبراير 2025 وبإشراف الدكتورة منى عبد المقصود

تم إعداد هذا التحقيق وإنجازه قبل سقوط نظام السوري