وداعاً جورج، وداعاً يا معلم

أدين بالكثير، ومثلي كثرة من أبناء جيلي، لجورج طرابيشي، مفكراً ومثقفاً وصديقاً. كان مدخلي إلى الفكر الماركسي غير الأرثوذكسي، خارج كتب «دارالتقدم»، وكان مدخلي إلى عالم فرويد الثري، ومدخلي إلى فهم محمد عابد الجابري من دون تأليهه. منه تعلمت نقد الفكر الديني ونقد الفكر القومي ونقد الماركسية ونقد النقد.

من جورج طرابيشي تعلمت أن الماركسية ليست بالضرورة ماركسية – لينينية، وأن الاتحاد السوفياتي لا يمثّل بالضرورة تجسيد الماركسية على الأرض، وأن خالد بكداش ليس معصوماً عن الخطأ كالأنبياء. ومن مجلة «دراسات عربية» التي كانت تصدر عن «دارالطليعة» تعلمت، حين كان يرأس تحريرها، أنه إضافة إلى كارل ماركس ولينين، هناك أيضاً تروتسكي ولوناتشارسكي وكارل لايبنخت وروزا لكسمبورغ وإريك فروم وهربرت ماركوزة. ومنه تعلمت أن الياس مرقص وياسين الحافظ ليسا هرطوقين بل هما مجدّدان مبدعان في الفكر الماركسي. ومنه تعلمت أن ما قاله ماركس ولينين ليس مقدساً، بل هو حديث بشر يقبل الخطأ والصواب والتطوير.

وأثناء رئاسة تحريره مجلة «دراسات عربية»، آثر طرابيشي المواجهة في مجال الفكر على الانسياق وراء السائد. وفي الوقت الذي كان الأدب الماركسي – اللينيني – الستاليني قد بلغ أوجه في ظل حكم بريجنيف للكرملين، وهيمنة «العلماء» السوفيات على الفكر اليساري في العالم عموماً والعالم العربي خصوصاً، نشر طرابيشي (وكذا فعلت «دار الطليعة» التي كان له فيها رأي مسموع) مقالات لأمثال المفكرين السوريين البارزين الياس مرقص وياسين الحافظ، كما نشر عنهما وعن فكرهما، مفسحاً في المجال أمام رؤية مختلفة للفكر الماركسي قادت كثراً من أبناء جيلي إلى الخروج عن قيود الأحزاب البكداشية التي كانت مهيمنة على الفكر اليساري في الخمسينات والستينات ومنتصف السبعينات. وبدأنا نرى في رياض الترك وعمر قشاش صاحبي رؤية مشروعة وليسا مجرد «خائنين» للحزب وللاتحاد السوفياتي «العظيم».

ومن خلال جورج، كان أول لقاء بيني وبين سيغموند فرويد. أمسكت نهاية السبعينات بكتاب عنوانه «موسى والتوحيد»، ولأنه لم يكن لدي ما أقرأه، بدأت بتصفّح الكتاب. لم أنتبه لنفسي إلا وقد مضى شطر من الليل وقد سلخت مائة صفحة منه. في اليوم التالي أنهيته، وبعدها صرت إنساناً جديداً. سحرني فرويد وسحرني جورج بأسلوبه الرصين، لكن السلس المطواع، ورحت أبحث عن مؤلفات أخرى لفرويد فلم أجد إلا قلة منها تُرجمت إلى العربية، منها «تفسير الأحلام» من ترجمة الأستاذ الكبير مصطفى صفوان، الذي قد يكون أكثر دقة علمية ولكنه أقل سحراً وسلاسة. وانتظرت حتى ترجم جورج «الحلم وتأويله» و «مستقبلوهم» و «الطوطم والتابو» و «قلق في الحضارة» وغيرها كثير، لتكتمل صورة فرويد في وعيي قبل أن أتقن الإنكليزية فأبدأ بقراءته بلغة ثانية.

بيد أن أكثر ما تعلمته من فكر طرابيشي كان ألاّ آخذ الأعلام بشهرتهم. كنت قرأت «تكوين العقل العربي» و «بنية العقل العربي» للمرحوم محمد عابد الجابري، أُخِذت كما أُخذ كل بني جيلي بهذا المشروع الضخم. ولا أزال أدين للجابري بأنه أول من فتح ذهني لنقد العقل العربي، لكن طرابيشي لجم الافتتان غير المشروط بخطاب الجابري الآسر. ومن نقده للجابري انتبهت إلى أن الغائية المركزية التي توجه مشروع الجابري في نقد العقل العربي هي «التوظيف الأيديولوجي للإبستيمولوجيا لتحطيم وحدة النظام المعرفي لهذا العقل»، أي أن الجابري يوظّف الإبستيمولوجيا في خدمة الأيديولوجيا، وهي كما يقول طرابيشي «أيديولوجيا متعصبة لما يسميه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي في خاتمة المطاف ضد الإسلام الروحي». وبيّن طرابيشي كيف أن الجابري يرفع مقولتي الشرق والغرب من مجرد مقولتين جغرافيتين إلى مقولتين إبستيمولوجيتين، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل بما هو كذلك. «فما ينتمي إلى الغرب يمثل مبدأ المعقولية في أعلى أشكاله: البرهان. أما ما ينتمي إلى الشرق فنصيبه من مبدأ المعقولية مخفوض إلى مرتبة البيان، هذا إن لم يتردّ إلى مرتبة أكثر تدنياً، هي مرتبة العرفان».

ومن ثم، أدين لطرابيشي بفتح المجال أمامي لقراءة مختلفة لبعض الروائيين العرب، بخاصة نجيب محفوظ، لكن أيضاً الطيب صالح وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم. فكتابه الممتع الصغير «شرق وغرب: رجولة وأنوثة – دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية»، فتح أمامي آفاقاً جديدة لفهم روايات «موسم الهجرة إلى الشمال» و «عصفور من الشرق» و «الحي اللاتيني»، وكيف يرى العربي نفسه فاتحاً (جنسياً) للغرب في إسقاط معكوس لفترة الكولونيالية الغربية للشرق العربي. أما كتابه «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، فدفعني إلى إعادة قراءة العملاق المصري بعيون جديدة وذهن أكثر انفتاحاً حول فكرة الله في أدبه وفلسفته.

لكنني مدين لشخص طرابيشي بدين شخصي كبير، فقد كان هو الذي فتح لي الباب أمام الانضمام إلى «رابطة العقلانيين العرب»، وعرّفني الى رجاء بن سلامة وعزيز العظمة وسيد القمني والعفيف الأخضر وغيرهم، ثم طلب مني الانضمام إلى أسرة تحرير موقع «الأوان» التي ما زلت حتى اليوم أتشرّف بالعمل معها.

جورج طرابيشي بعثي ترك البعث، على عكس التيار، بعد أن استلم البعث السلطة، وعندما كانت الكتل البشرية تتدفق صوبه، ومسيحي رفض الكهنوت المسيحي وفكرة الجحيم، وماركسي لم يحج إلى موسكو أو بكين، وفرويدي لم يعتبر فرويد نهاية التاريخ. رفض المقدس، كل مقدس، ونظر إلى الواقع باعتباره حياة جارية. ذات يوم وكان طالباً في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية، قال له مدرس الديانة المسيحية: «أريدكم الآن أن تتصوّروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرّة، كرة ليست من تراب وماء بل هي من حديد فولاذي صلب، يمرّ عليها كل مليون سنة طائر، فيمسحها بجناحه. فكم وكم مليون مليون سنة يحتاج هذا الطائر ليذيب هذه الكرة الحديدية؟ تذوب هذه الكرة ولا يذوب عذابكم في جهنّم إذا متّم في حال الخطيئة». يقول جورج: «وصلت إلى البيت وأنا في شبه هذيان وأصابتني حمّى حقيقية وبقيت يومين طريح الفراش، ثم لما أفقت كان ردّ فعلي الوحيد أنني قلت بيني وبين نفسي: لا، إن الله ذاك الذي حدثني عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحياً».

وداعا جورج…