حرية الإعلام في تونس

محمد كريشان

عندما استقبلني قبل أيام قليلة بقصر قرطاج الرئيس التونسي منصف المرزوقي لم أشأ أن أثير معه في تلك الجلسة القصيرة سوى موضوع واحد هو حرية الإعلام في تونس بعد عام من الثورة. قلت له إن لا مكسب في البلاد الآن أكثر جلاء من هذه الحرية الكبيرة التي يتمتع بها الإعلام سواء المكتوب أو المرئي أو المسموع فلا حدود لتناول الأحزاب أو الحكومة أو رئيس الدولة.

وأضفت أن الإعلام في تونس حتى في بعض فترات الحرية النسبية المحدودة ظل محافظا على رئيس الدولة كخط أحمر لا يقترب منه أحد سواء مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أو الرئيس السابق زين العابدين بن علي. أما الآن فالكل يخوض في كل شيء ولا أحد فوق النقد أو حتى الاستهزاء بمن في ذلك رئيس الدولة نفسه وألححت عليه أن يتحمل ذلك شخصيا مهما كان لأن من المهم إرساء تقاليد جديدة من الحرية الصحافية في البلاد. وقد سرني أنه بدا مقتنعا بهذا المنطق بغض النظر عن ارتياحه من عدمه مما يكتب أو يقال. بالطبع كأي حرية ينعم بفضائها الرحب الجميع يمكن تسجيل ملاحظات عديدة بشأنها.

هذه الحرية اختلط فيها الحابل بالنابل فأنت تجد في ظلها من كان ممنوعا من الكتابة مطاردا أو منفيا وقد استعاد حقه المصادر في أن يكون جزءا من المشهد الصحافي والسياسي بالبلاد. فيها كذلك من كان جزءا من ‘المليشيا الصحافية’ لبن علي ومع ذلك لم تكن له حتى فضيلة الحد الإنساني الأدنى المعقول من الخجل فتراه ينظـّـــر للديمقراطية وهو من أجّـــر قلمه طوال أكثر من عقدين للتسبيح وشتم كل معارض أو مستقل. بعض هؤلاء كان يعمل حتى مع وزارة الداخلية، أو ينــــسق معها، بل ويدبـّـج التقارير الأمنية في زملائه ويأتمر بأوامر النافذين السابقين في القصر الرئاسي على حساب المهنة وأخلاقياتها.

البعض الآخر من نفس الطينة ممن خيـّــر في الأشهر الماضية التواري قليلا عن الأنظار وجد مؤخرا الفرصة مؤاتية للعودة إلى الساحة الصحافية بعد أن وجدها تعج بأمثاله دون حياء. بعض رجال الأعمال من العهد السابق ممن تحوم حولهم نقاط استفهام عديدة وجدوا هم الآخرون في هذا المناخ أفضل فرصة لإطلاق صحف جديدة تخوض مع الخائضين. في الأثناء، ما زال الوسط الصحافي ينتظر ما التزمت به نقابة الصحافيين قبل أشهر من إعلان ‘قائمة سوداء’ لكل الذين تلوثوا بالعمل مع الأجهزة الأمنية ضد زملائهم وضربوا عرض الحائط بميثاق الشرف الصحافي.

المشهد الإعلامي الإذاعي والتلفزيوني لم يعرف تنوعا لافتا من حيث العدد. ظهرت في الفترة الأخيرة إذاعات جديدة إلا أن التلفزيونات الخاصة ظلت هي نفسها مما حدّ من خيارات المواطن في إعلام بصري جديد بعقلية مختلفة ووجوه مغايرة. في المضمون، التلفزيون الرسمي يبذل جهدا واضحا لتطوير أدائه الإخباري وكذلك الإذاعة أما بقية القنوات الخاصة فلم تجد حرجا كبيرا في أن تغير جلدها بسرعة فائقة مع إبقاء نفس الوجوه السابقة رغم مصداقيتها المهترئة. ومع تعيينات الحكومة الأخيرة على رأس المؤسسات الإعلامية الكبرى انطلق الجدل من جديد حول مدى إمكانية إرساء تقاليد جديدة في علاقة الحكومة بقطاع ظل لعقود عصيّا على التطور.

هنا لا بد للحكومة والأغلبية الجديدة فيها لا سيما حركة النهضة أن تحرص على تجنب تجنيد الإعلام العمومي وأن تبقيه على مسافة واحدة من الجميع بالتأكيد على المهنية والاستقلالية وأن تحذر كذلك من بروز منافقين جدد فهؤلاء لا يخلو منهم أي عهد. يجب عليها ألا تغتر بأمثال هؤلاء لأنهم سيكونون أول من ينقلب عليها إذا تغيرت المعطيات. كان غريبا للغاية مثلا أن يصرح أحد المسؤولين الجدد المعينين مؤخرا على رأس مؤسسة إعلامية أنه رجل يؤدي صلواته الخمس.. مع أن هذا أمر بينه وبين خالقه والصلاة لا علاقة لها بكونه مسؤولا متميزا أو رديئا!! المشهد الإعلامي في تونس بعد عام من الثورة ما زال مرتبكا ومشوّشا ولكنه سينتهي به الأمر تدريجيا، بجهود أهل المهنة قبل كل شيء، إلى التوازن المطلوب وتطهير نفسه بنفسه . شيء واحد لا شك فيه ولا مراء: لا عودة إلى الوراء أبدا.