الرقابة … و«حوار الأحذية»

الرقابة … و«حوار الأحذية»

صحيفة “الحياة”: عبده وازن
من «غرائب» جهاز الرقابة في لبنان و»عجائبه» أنّه يمارس على الأفلام والمسرحيات ما يُسمّى «رقابة مسبقة»، فيفرض على المخرجين رؤيته «الفنية» إلى النصوص والسيناريوات، قبل أن ينجزوها، عروضاً وأفلاماً. وإذا خرج هؤلاء المبدعون عن هذا «التصوّر» المسبق للرقابة فإنّ أعمالهم ستخضع للقطع والبتر أو المنع. هذا «ضرب» من الرقابة كان يمارسه، كما يروي التاريخ، النازيون في ألمانيا والفاشيون في إيطاليا وسائر الأنظمة الديكتاتورية، وبعضها في عالمنا العربي ما زال يمارسه تحت شعار «البعث» والقومية والعروبة… إنها بدعة ترسّخت في «مفكرة» الأمن العام اللبناني خلال مرحلة «الوصاية» التي جرّدت اللبنانيين من حقوقهم المدنية وفي مقدّمها حرية التعبير. قبل «الوصاية» كانت الرقابة تُمارس انطلاقاً من معايير جاهزة هي أشبه بـ «شعارات» فضفاضة ومطلقة مثل «المسّ بالأخلاق العامّة» أو «إثارة النعرة الطائفية» أو «الإساءة إلى مصلحة الدولة» وسواها. وكانت كلّما أقدمت على منع فيلم أو مسرحية أو كتاب تلجأ إلى تبرير فعلتها لتبرئة نفسها أمام الإعلام أولاً ثمّ الرأي العام. وكثيراً ما تراجعت عن قراراتها جراء تدخل جهات أو أشخاص لهم سطوتهم السياسية أو الدينية أو الطائفية… وأذكر كم راقب الأمن العام من نصوص مسرحية قبل عرضها ثمّ تسامح معها أو غضّ النظر عنها. إلا أن جهاز الرقابة، بعد مرحلة «الوصاية» أضحى أشدّ عنتاً وقسوة وعماء… أضحى أيضاً أشدّ جهلاً بـ «الأعمال» التي يراقبها ويمارس عليها «ساديّته» الوطنية…
أحدث أفعال المنع التي قام بها جهاز الرقابة مصادرته فيلماً لبنانياً عنوانه «بيروت بالليل» للمخرجة الطليعية دانييل عربيد. والفضيحة أنّ الفيلم عُرض لتوّه في مهرجان دبي السينمائي وحصد إعجاب الجمهور والنقاد وكان مادّة نقاش سينمائي وسياسيّ. الأمن العام اللبناني اغتاظ من المخرجة لأنها لم تطبّق السيناريو الذي راقبه وحذف منه ووضع لمساته «الإبداعية» عليه. وحرصاً منه على سلامة «الوطن» ومصلحة الدولة العليا والأخلاق العامّة والسلم الأهلي منع الفيلم من العرض، مشترطاً على المخرجة أن تعاود النظر فيه انطلاقاً من مقترحاته التي سجّلها بالشطب و «الشخط»…
أما المصادفة التي رافقت هذا القرار النازي أو الفاشي، فهي الندوة التي عقدها أخيراً «مرصد الرقابة» وجمعية «مهارات» بغية إطلاق مشروع عنوانه «قانون حرية الأعمال السينمائية والمصوّرة»، وهاتان الجمعيتان هما من الجمعيات الأهلية التي «تناضل» في سبيل إرساء السلم والحوار ونبذ الطائفية والتسلّط والفساد وبناء المجتمع المدني… وتسعى هاتان الجمعيّتان إلى «إصلاح» جهاز الرقابة من خلال اللجوء إلى القانون وليس عبر الإعلام. وتملك الجمعيتان وثائق مهمّة يمكنهما من خلالها مواجهة الأمن العام بحسب القوانين اللبنانية… والأمل بأن تتمكّنا فعلاً في وضع جهاز الرقابة على محك النقاش الثقافي والقانوني فيعاد النظر فيه جذرياً.
أصيب جهاز الرقابة بحال من الرعب، كعادته، عندما قرأ عنوان السيناريو «بيروت بالليل»… إنّه يخشى الليل في بيروت، الليل الذي لا يعني له سوى المكائد والجرائم والفظائع. يؤثر جهاز الأمن النهار… ولو كان عنوان الفيلم «بيروت بالنهار» لما توقّف عنده وراقبه. الليل هو الذي يخيفه، وفي ظنه أنّ ما يحصل في الليل لا يمكن أن يحصل في وضح النهار… الأمن العام يخاف كثيراً على هذا البلد الذي جرّده الفساد الهائل من مفهوم «الوطن» حتى بات يصعب على أشخاص كثيرين أن يسمّوه وطناً… الطائفية أفسدته، والمذهبية أفسدته، والعمالة والخيانة والتجارة الرخيصة والصفقات المشبوهة والجرائم والاغتيالات…
لا أدري لماذا لم يعرب جهاز الرقابة عن امتعاضه من حوار «الأحذية» الذي شهده البرلمان اللبناني قبل أيام. ألم يسئ هذا الحوار المهين إلى الأخلاق العامّة وإلى مهابة الدولة؟ أليس اللجوء إلى «الحذاء» في جلسة برلمانية اعتداء على كرامة الشعب اللبناني الذي يمثله البرلمان؟ أليس في هذا الاعتداء السافر، اعتداء على حزب وجماعة وفئة ؟ لم يكن متوقعاً أن يقع النائب نواف الموسوي في هذا الدرك فيوجّه لخصمه السياسي كلاماً نابياً مشبهاً إياه بحذائه ومفضلاً حذاءه عليه… لم أصدّق أن نواف الموسوي، الكاتب والمثقف الذي ينتمي إلى «حزب الله» يمكن أن يصل إلى هذا الدرك. هل نسي نواف الموسوي أنّه هو مَن ترجم كتاباً «عن الإسلام في إيران – مشاهد روحية وفلسفية» للمستشرق الفرنسي الكبير هنري كوربان الذي يُعدّ مثالاً في الانفتاح والحوار والاعتراف بـ «الآخر»؟ تألمت كثيراً لمثل هذا السلوك الذي سعى إليه كاتب كان لا بدّ من التعويل عليه، ثقافياً وحزبياً. وكان ينقص نواف الموسوي أن يرفع إصبعه، كما بات يفعل، ويحرّكه منذراً بالوعيد… وأيّ وعيد.
من الرقابة المستبدّة إلى حوار الأحذية، إلى سعي وزير الثقافة الحالي لمحاكمة شاعر في حجم بول شاوول … ترتسم صورة لهذا «البلد» المفكّك والمدمّر سياسياً واقتصادياً، أشدّ سوداوية من «ليل» بيروت الذي يخافه الأمن العام اللبناني… هذا «بلدنا» الذي كان في يوم من الأيام وطناً، وطناً حقيقياً لم يستحقه أبناؤه ولا حكامه.