الإعلام العربي والشباب… طموحات كبيرة في واقع محبط

أنس زرزر
لم ينفصل الإعلام العربي يوماً، عن السياسية والتوجهات التي كانت وما تزال ترسمها له الأنظمة العربية الحاكمة، على مختلف أشكالها وطبيعتها. هذا ما ساهم إلى حد كبير جداً، بتراجع في الدور الذي كان من المفترض أن تقدمه الوسائل الإعلامية المختلفة، بالتواصل الحقيقي الفاعل مع نبض الشارع العربي، على اختلاف شرائحه ومستوياته، ونقل معاناته ومشاكله بحرية وأمانة وحرفية عالية. كما فرضت الحكومات العربية، العديد من القيود الرقابية على حرية وسائل الإعلام المختلفة، وأصدرت مجموعة من القوانين الإعلامية الصارمة، عُدلت وتغيرت في كل مرة لتزيد من تقييد حركة الإعلاميين على الأرض، لا من أجل منحهم المزيد من الحرية لمتابعة عملهم. وتحولت طبيعة ولغة الإعلام الرسمي في مجمل البلدان العربية بشكل عام، وفي سوريا بشكل خاص عبر سنوات طويلة خلت، بمختلف أشكالها المقروءة والمرئية والمسموعة، إلى حالة مستنسخة ومتشابهة عن بعضها البعض، وكأنها خارجة من مكاتب الفروع الأمنية المعنية بشكل مباشر في تقديم قراءة إعلامية تناسب ما تريد السلطة تقديمه لشعبها. أما المحسوبيات والعلاقات الشخصية، فقد ساهمت بدورها في تكريس أسماء بعض الإعلاميين الذين شغلوا مناصب حساسة في الوسائل الإعلامية لسنوات طويلة، هذا ما تسبب بالضرورة في زيادة تحجر المناهج المتبعة في تقديم الرؤية الإعلامية، وهجرة عدد كبير من الإعلاميين الشباب للعمل في الخارج، بعد فشلهم في تحقيق طموحاتهم ومشاريعهم، ضمن المؤسسات الإعلامية الوطنية المتأصلة في البيروقراطية والروتين والخطاب الإعلامي الثابت والمتحجر.
وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي، شهدت الوسائل الإعلامية قفزة نوعية بسبب دخول عاملين اثنين إلى الفضاء الإعلامي المحلي. البداية كانت مع عصر الفضائيات المختلفة، التي أتاحت للمواطن السوري والعربي على حد سواء، المتابعة والاطلاع على أشكال مختلفة من الخطاب الإعلامي، عندما تحولت “شاشة” جهاز التلفاز في منزله إلى نافذة تمكنه من الاطلاع عبرها، على نماذج مختلفة من الخطاب الإعلامي، في طريقة تقديم وقراءة الخبر ومعالجة الموضوع. أيضاً دخلت الشبكة العنكبوتية إلى المجتمع السوري بشكل تدريجي، مما سمح لمتصفحي الشبكة العنكبوتية، القراءة والاطلاع على عدد كبير من الصحف التي بقيت ممنوعة من دخول الأراضي السورية، لسنوات عدة، لاختلاف وجهة نظرها واختلاف القراءة السياسية التي تقدمها عن تلك التي يريد الإعلام السوري احتكار سيناريوهاتها لنفسه، هذا ما أدخل هذه المواقع مثار اهتمام المتصفحين في دوامة الحجب والمنع، من قبل الرقيب الإلكتروني هذه المرة، وتحولت عملية الدخول والتصفح إلى لعبة تشبه لعبة القط والفأر.
وفي محاولتها مواجهة هذا المد الإعلامي والخطاب المختلف الذي يقدم الحقيقة ويلامس هموم المواطن اليومية، عملت وزارة الإعلام السورية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية، على إيقاف هذا التطور، عندما أصدرت جملة من التعليمات التي تقضي بمصادرة أجهزة الاستقبال الفضائية، ومنع الدخول إلى شبكة الإنترنت إلا بموافقات أمنية صارمة. لكن سرعان ما عجز القائمون على الإعلام السوري وأجهزة الرقابة التابعة له، عن إيقاف هذا المد الإعلامي المتطور، الذي كان وما يزال سباقاً ومتقدماً على آلية عمل وشكل الخطاب الذي يقدمه الإعلام السوري الرسمي. هذه التطورات المتسارعة في التعامل مع فضاء إعلامي مفتوح غير مقيد أو مراقب مسبقاً، سرعان ما لقيت استجابة كبيرة لدى شريحة كبيرة من الشباب السوري، المتطلب دائماً  إلى كل ما هو جديد وغير مألوف، وما يتناسب مع طريقة تفكيره وفهمه لمحيطه وحياته المتجددة باستمرار. ومع نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، أصبحت المعركة واضحة تماماً في الفضاء الإعلامي السوري، بين المؤسسات الإعلامية الرسمية والقائمين عليها من جهة، وبين شريحة واسعة من الإعلاميين السوريين الشباب، الذين وجدوا أخيراً متنفساً ومساحةً للعمل، في العديد من الوسائل الإعلامية المختلفة.
مشاريع إعلامية شبابية كثيرة ومتنوعة، ظهرت سريعاً إلى العلن، بعد أن حاول أصحابها كسر جميع حواجز الرتابة والقيود والرقابة السائدة والمحددة مسبقاً، بعضها أثبت جدارة وحضوراً على أرض الواقع، والبعض الآخر سرعان ما توقف، بعد أن نجحت السلطات السورية في محاصرتها والتضييق على القائمين عليها، منهم من دخل السجن، ومنهم من حوكم بتهم مختلفة، بعد أن رفع أفراد وجهات مختلفة، دعاوي قضائية بحق هذه الوسائل الإعلامية “المسيئة والمحرضة التي تتجاوز جميع الخطوط الحمراء” كما وصفت، كما حدث مع جريدة “الدومري” على سبيل المثال لا الحصر، التي أطلقها الفنان ورسام الكاريكاتير السوري علي فرزات، مع عدد من الصحفيين والإعلاميين والكتاب الشباب، في الأول من شهر شباط عام 2001، في ذلك الوقت حققت الجريدة الناقد الساخرة، نجاحات متلاحقة لدى القراء من مختلف أطياف المجتمع السوري، باعتبارها أول جريدة مستقلة تصدر بعد 40 عاماً من احتكار السلطة السورية وإعلامها الرسمي إصدار الصحف الدورية. كان واضحاً في ذلك الوقت أن الجريدة قد تعرضت لمصالح كثيرين ممن يملكون من المميزات والاستثناءات ما لا يسمح لأحد المساس بها، وابتدأت المواجهة المباشرة مع هؤلاء عبر القضاء، حيث تم رفع أكثر من 35 دعوى قضائية بحق محرري “الدومري” ومديرها العام علي فرزات، وذلك رداً على مواضيع نشرتها الجريدة، ثم سرعان ما تحولت المواجهة نحو التشهير بـ”الدومري” واتهامها بالكذب والتلفيق، وأخيراً اتهام مؤسسها علي فرزات بالخيانة. بعد عامين فقط من صدورها، توقفت “الدومري” عن الصدور نهائياً بسبب مضايقات رسمية من وزارة الإعلام، ليس أولها الرقابة الشديدة على موادها وحذف أجزاء كبيرة منها، وليس آخرها عرقلة طباعتها وتوزيعها، لكنها حققت أولى الخطوات الناجحة في التأسيس لأعلام الشباب المستقل، بعد سنوات طويلة من الاحتكار المؤسسات الرسمية للإعلام المطبوع.
انتقل عدد كبير من كتاب الدومري وغيرهم من الإعلاميين الشباب، للبحث عن منابر أخرى للنشر والتعبير عن أفكارهم بشكل حر وجريء، وجد الكثير منهم ضالتهم أخيراً في مواقع عديدة على شبكة الانترنت، بعد أن بدأت هذه الخدمة تتخلص بشكل تدريجي من القيود الرقابية، وأصبحت المنتديات الحوارية، والمجلات والجرائد الإلكترونية في متناول اليد، ورحب مدراء مجمل هذه المنتديات والمنابر بمساهمات الكتاب الشباب، التي غالباً ما كانت تثير موجة من ردود الفعل المتباينة حولها. ربما النهاية التي آلت إليها جريدة “الدومري” تلخص واقع الإعلام المطبوع ومجمل المحاولات الإعلامية المشابه في سورية، الخاضعة بشكل شبه كامل تقريباً، لسياسة محددة مسبقاً، تمنع جميع من تخول له نفسه تجاوز الخطوط الحمر، الكتابة أو حتى ملامسة المناطق المحظورة من التداول.
أما محاولات الإعلام المرئي الخاصة والشبابية في سورية، فلم تكن أحسن حالاً من المكتوبة، كما حدث مع قناة “أورينت” الفضائية قبل أن تنقل مكاتبها إلى المدينة الإعلامية في دبي بعد إغلاقها في دمشق، لتجنح عن مسارها الذي بدأت به بثها من دمشق، كردة فعل وجدها البعض منطقية وطبيعية، بعد المضايقات والمداهمات المتكررة لمكاتبها في دمشق، وملاحقة عدد كبير من العاملين فيها قانونياً. تميزت الانطلاقة الأولى لقناة “أورينت” باعتمادها شبه الكامل على عناصر شابة، من إعلاميين ومقدمي برامج ومعدين وفنيين ومخرجين، كما تميزت العديد من برامجها بالتركيز على قضايا الشباب وهمومهم مشاكلهم، وقضاياهم وطموحاتهم وأحلامهم، واستطاعت المحطة الوليدة، تحقيق قاعدة جيدة بسرعة كبيرة، لدى شريحة الشباب، الذين وجدوا فيها أخيراً خطاباً إعلامياً يلامس أسلوب تفكيرهم، يقدمه لهم إعلاميون شباب يشبهونهم تماماً، لكن عندما حاولت إدارة القناة تقديم أولى نشراتها الإخبارية السياسية، بعد حوالي سنتين من البث التجريبي، أصدرت وزارة الإعلام السورية قراراً نهائياً يقضي بمنع عرض نشرات إخبارية سياسية، وداهمت الأجهزة الأمنية مكاتب المحطة في دمشق، ليسدل الستار نهائياً عن تجربة إعلامية شبابية، كان يتوقع لها الكثير.
بدورها تنبهت بعض المؤسسات الإعلامية العريقة، إلى الدور الإيجابي الذي من الممكن أن تحققه الطاقات الإعلامية الشابة، الباحثة عن فرصة حقيقية لإثبات ذاتها، وأعتبر القائمون على إدارة هذه المؤسسات، العناصر الشابة داعماً حقيقياً، ورافداً حقيقياً لعناصرها وكوادرها. هذا ما حفز جريدة النهار اللبنانية، على إصدار ملحق أسبوعي حمل اسم “نهار الشباب” الذي أصدره جبران التويني عام 1993، وحقق حضوراً طيباً واستقطب أقلاماً واعدة. وقبل حوالي 3 سنوات، أصدرت جريدة السفير اللبنانية بدورها، ملحق “شباب السفير” أما جريدة الأخبار اللبنانية، فقد اعتمدت بشكل شبه كامل منذ بداية تأسيسها عام 2006 على الصحفيين والإعلاميين الشباب، مما أكسبها آلية خطاب وتواصل مختلفة عن بقية الصحف العربية، حققت لها قاعدة شبابية واسعة. هذا ما نفتقده بحق في مجمل المطبوعات ووسائل الإعلامية السورية المختلفة، التي من الممكن أن يبقى رئيس تحرير صحيفة رسمية، أو مدير وسيلة إعلامية مسموعة أو مرئية في مكانه لسنوات طويلة، لا يحاول خلالها ضخ طاقات إعلامية شابة، ربما حرصاً منه على منصبه ومكانته في المؤسسة التي يعمل بها.
مع بداية أحداث الانتفاضة السورية، قبل حوالي 5 أشهر، أعلن الإعلام السوري الرسمي ومن في حكمه – مثل قناة الدنيا الفضائية- استسلامه بشكل غير مباشر، أمام الشبكات الإخبارية المختلفة التي انتشرت بكثرة على الشبكة العنكبوتية، ووقوفه عاجزاً في محاولاته المستميتة تكذيب الأخبار التي باتت في متناول الجميع خلال دقائق قليلة فقط، من وقوع الحدث. إذ نجح عدد قليل من الشباب السوري المتضامن والمتعاطف مع انتفاضة الشارع، وخروج المتظاهرين للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم، في تجاوز مؤسسات إعلامية كبيرة مدعومة من الحكومة السورية، التي طالما أنفقت عليها مبالغ طائلة، من أجل التصدي للمؤامرات الخارجية، والمحافظة على “اللحمة الوطنية، ودعم المقاومة والممانعة” وتحول العديد منهم إلى مراسلين صحفيين ميدانيين، يقومون بهمام مختلفة في الوقت نفسه، من تصوير الحدث، وتحرير الخبر, ومن ثم وضعه على صفحات الإنترنت، كما هو الحال مع موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” الذي تحول إلى إحدى أهم الوسائل الإعلامية خلال الأزمة السورية، عندما نقلت عنه العديد من المحطات الإخبارية العريقة، مقاطع مصورة وأخباراً مختلفة، مثل الجزيرة والعربية والبي بي سي وفرانس 24. كما عمل هؤلاء المراسلون الصحفيون الشباب على تطوير أدائهم وخبراتهم في التعامل مع تقديم الخبر ونقل الحقيقة كما هي، عندما حاولت وسائل إعلامية مختلفة، التشكيك في صحة مصداقية عملهم. حيث باتت المشاهد المصورة تقدم بزوايا وكوادر تؤكد للمشاهد طبيعة وجغرافية مكان الحدث، مع تعليق يوثق تاريخ تصوريها، أيضاً ابتعدت الأخبار المنشورة على الصفحات الإخبارية عن الانفعال والمبالغة المجانية. كل هذا يدل على أن الإعلام العربي بشكل عام، الذي شهد ثورات مختلفة في العديد من البلدان العربية، والإعلام السوري الرسمي ومن في حكمه الذي فشل في التعامل مع الأزمة والانتفاضة السورية التي ما نزال نعيش أحداثها المتسارعة حتى اللحظة، بات يقف أمام مفترق طرق، لن يحدد بوصلته وتوجهاته المقبلة قانون الإعلام الذي لا يتوقع منه أن يمنح العاملين في مجال الصحافة والإعلام، مساحة الحرية التي طالما حلموا بها، أو أن يفسح المجال للإعلاميين الشباب على مختلف توجهاتهم وأساليبهم وتطلعاتهم، ويمنحهم الفرصة الحقيقة التي يريدونها، بعد أن استطاعوا تحقيق ذاتهم بوسائل وإمكانيات لم يولها الإعلام الرسمي اهتماماً يذكر.

 

المصدر : مجلة نادي الاعلام العدد الرابع

www.scm.bz/mag