قراءة في الإعلام: صناعة الصورة

قراءة في الإعلام: صناعة الصورة
تحول المعرفة إلى صورة نتيجة ثورة الاتصالات

“القدس العربي”: د.عبدالله البياري
يوضح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في نص نشر له عام 1973 أن مسار الإنسانية قد جرى على مراحل ثلاث.
– أثناء المرحلة الأولى، والتي تعود إلى ما قبل التاريخ، كانت الاتصالات بطيئة للغاية، ولكن تطورات المعرفة كانت تسير ببطء هي الأخرى، بحيث أن كل جديد كان أمامه ما يكفي من الوقت لينتشر عبر العالم قبل أن يطرأ جديد آخر. فكانت المجتمعات الإنسانية تمتلك درجة متقاربة من التطور ـ تقريبا-، والكثير من الخصائص المشتركة.
– أثناء الحقبة الثانية، كان تطور المعارف أسرع من انتشارها، بحيث أصبحت المجتمعات الإنسانية أكثر تمايزا وإختلافا، وقد دامت هذه الفترة عدة آلاف من السنوات تعود إلى ما يسمى بالتاريخ.
– ثم بدأت مؤخرا حقبتنا وهي الحقبة الثالثة، والتي تتقدم أثناءها المعارف بصورة متسارعة، ولكن انتشار المعارف يسير بصورة أسرع ايضاً، لدرجة أن المجتمعات الانسانية ستجد نفسها أقل فأقل تمايزاً.
للفظة ‘إعلام’، اتجاه واحد للرسالة/الخطاب المنقول من طرف إلى آخر، ومن هنا تظهر أهمية الإعلام ووسائله ووسائطه، باعتبارها أدوات تشكيل معرفة، وأداة سلطوية (سلطة ناعمة)، فكانت أولى عناصرها: الصورة.
إن تحول المعرفة إلى صورة، كنتيجة لثورة الإتصلات والمعرفة والصورة، هو جزء أصيل من الفكر المعولم القائم في أصله على عولمة النموذج الاقتصادي القائم على أساسين: سلعة ومشتر، ومن هنا كان التزايد الواضح في استثمارات رأس المال في الانتاج السمعي والبصري في المنطقة العربية ـ باعتبارها جزءا من العالم وجزءا مستهلكا بامتياز-، وهو تزايد على عكس ما قد تدعيه حداثة عصر المعرفة والاتصالات من نشر الوعي والثقافة، إنحسرت تلك المجهودات في برامج الترفيه والاستهلاك والقائمة على: التسليع والبهرجة الصورية (المسّرحة) ،فكانت عاملا معززا للمخاوف من الصورة التلفزيونية والاعلامية المرئية، وهي المخاوف التي ـ لعديد الأسباب- لم تحظ بأي جهد لمساءلتها واستنطاق ارتهاناتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية والحضارية بل والسياسية، مما جعل فضاء الاعلام الخاص، فضاء موازيا للاعلام الحكومي الذي تسيطر عليه الدولة من حيث أنه الفضاء ‘الرسمي’ للسلطة، يهدف في النهاية إلى اكمال السيطرة على الوعي الجمعي للشعوب، في تماهٍ أو توازٍ للارتباط بين رأس المال والنفوذ السياسي، وذلك بأن جعل الصورة التي ‘بألف كلمة’ ‘كتابة للأميين’ كما نصت الأمثال، فأصبحت الصورة اجابة جاهزة، ومصادقة لها وثوقية لدى الحاسة الإنسانية، على المسلمات والصور النمطية المعلبة ‘سلطويا’، بل أنها كذلك رسخت فهما خاطئا للصورة ينطلق من كون الصورة لغة عالمية تتعدى الثقافات واللغات، ويدركها الجميع بالصيغة نفسها، وهو تسطيح لا يتحقق إلا في خطاب إعلامي، يراد لصورته ألا تقدم سؤالاً أبدا.
لقد اصبحت الصورة دليلا على سلطة وسائل الإعلام، ونفوذها المتزايد في حياتنا المعاصرة، إذ انتقلت من كونها واسطة بيننا وبين الواقع والأشياء المادية من حولنا، إلى إنتاج واقع يملك أهميته ومكانته أكثر من الواقع المرجعي نفسه الذي يجب أن تحيل ـ الصورة- إليه، بل أن حقيقة ذلك الواقع المرجعي أمست تقاس بمدى قربها من الصورة وتطابقها معها، فالمرجع بأبعاده المركبة، والتاريخية الملموسة، إنمحى في الصورة وتلاشى، إلى أن أصبحت الصورة في حد ذاتها مرجعا، مما أدى إلى تشكل الوعي سائلا مبنيا على خارطة إدراكية ـ فردية أو جمعية- سائلة كنتيجة، يسهل تشكيلها متى كان الوعاء جاهزا، أو ما يسمى حضور ‘الكوكبة الذهنية المناسبة’.
لدى النظر في ‘بنية’ الصورة التلفزيونية، و’هيكلها’، يجب أن ندرك أن تأثيرهما وإن غاب ـ في أغلب الأحوال- عن التعيين، لا يعني غيابهما عن القصد والمعنى والفهم للصورة كنتيجة، فلدى تشريح الصورة الاخبارية التي نتلقاها جميعنا، ونتناقل محتواها، إنما هي نتيجة العديد من الاختيارات البنيوية: موضع الكاميرا لتقدير أحسن اطار للصورة، وأحسن اللقطات المعبرة عن رسالة الصورة لا لواقعها فقط، تركيب الصورة / الصور ضمن سردية معينة، اللغة اللفظية، والاصطلاحات الخطابية وتوقيتاتها، والوصفي منها تحديدا، والتي تتداخل ليس بالشكل التعبيري فقط، إنما أيضا لتعويض ما يصعب تصويره لعديد الأسباب القانونية والأخلاقية والإجتماعية والسياسية والأمنية وغيرهما، فتقول نصف ما يجب أن يقال، تاركة الخيال يكمل البقية، ولكن ضمن فضاء إيحائي غير محايد.
لذا فبقدر ما للمادة الصورية وتأثيرها على المتخيل الجمعي من أثر جامع للشعب والأمة ـ بحسب ريجيس دوبرييه- كما السينما والتلفزيون، فللصورة ايضا خطاب سلطوي، له نفس التأثير المفرق باستخدام نفس المتخيل الجمعي.
للاعلام المكتوب والسموع (الملفوظ) حدوده لدى التعبير عن الواقع، حدود تقرها وتحددها الوسيلة (الوسيط) المستخدم للإعلام، ويحد منها تدني ارتباطها بالإشباع الحواسي ـ أو ما يسمى بمرحلة ‘خطف الأبصار’-، وهو الذي يتم اشباعه تماما في مرحلة الصورة، حيث يمتلك من يرى الصورة ‘احساسا’ بأنه في أقرب النقاط للواقع المحكي عنه، فتصبح الصورة هنا، بتغذيتها الحواسية لذلك الإحساس واقعا وحكاية معاً، وهو ما يعطي الصورة خصوصيتها المميزة لها سواء كانت صورة تماثلية متماهية مع الواقع، أو رمزية، تحمل دلالة أو تضمينا ذا فضاء أرحب من سابقتها، مثال ذلك صورة البوعزيزي التي أصبحت رمزا ثوريا، انتقل من حدود ميدانه الثوري الأول إلى ميادين أخرى على اختلاف تفاصيلها، فمرت الصورة هاهنا بداية بالمرحلة التماثلية أن وصفت شابا تونسيا من متوسط الشباب التونسي، هضمته ماكينة الدولة الاستبدادية الديكتاتورية ومؤسساتها المجتمعية الفاسدة، والمجتمع المعطل والمفرغ، ولكن بنجاح الثورة التونسية، تم فتح فضاء الدلالة للصورة التماثلية للبوعزيزي، فأصبحت صورة رمزية، وصاحب ذلك الإنزياح الصوري اخلالا وصفيا بالواقع وتفاصيله غطت عليه جمالية الإحساس بالصورة (فيما يعرف برحلة الأيقنة)، وانفتحت الصورة على متغيرات أخرى، قد تعتبر في ذاتها انتقاصا من معاناة وشهادة البوعزيزي، ومظلة يتم تحتها الكثير من العمليات الاستراتيجية والسياسية لتفريغ وتوجيه واحتواء المد الثوري العربي، كما حدث ويحدث في ليبيا، والتي ليس من المصادفة أبدا أن عمر الصورة التلفزيونية الثورية الليبية ـ إن وجدت- أقل كثيرا من غيرها من الساحات الثورية العربية، حيث أبدل الدكتاتور باحتلال، مما نزع أي قيمة عن أي احساس تولده الصورة الثورية الليبية. (وهنا نشير إلى بعض محاولات اخراج القيمة الميتافيزيقية الإنسانية للصورة من الساحة الثورية السورية عن مسارها القيمي الطبيعي إلى محاولات استنساخ النموذج الليبي).
فبحسب توينبي في فاتحة المقال، نحن في الحقبة الثالثة، ولكن الفارق هاهنا أن المعارف وإن تطورت بسرعة، إلا أنها تمر بعملية تشكيل سريع أيضا في ‘توصيفها’ صوريا، لذا كان نقل الصورة نوعاً من العلاقة الزمنية العابرة للتفاصيل المعرفية، حيث رفعت حالة السوقية التنافسية للصورة/السلعة من درجة المنافسة بين القنوات التلفزيونية في نقلها للأحداث تحت مظلة: السبق في التقديم، دون اتاحة الفضاء الموضوعي اللازم للتأكد من صحة المعلومة المتضمنة، جاعلاً من الحكم على صحة الصورة موضوعياً هماً أخيراً، لايسمح به الوقت، ولنا في المدة الممنوحة للصورة التلفزيونية ومقارنتها بالصورة السينمائية زمنيا، والصورة الإخبارية منذ فترة ما قبل الإنترنت وفنون الغرافيك إلى الآن خير دليل. فعلى صعيد مهني، كان متوسط المدة الزمنية التي تستغرقها اللقطات السينمائية تتراوح بين ثماني ثوانٍ وعشر ثوانٍ، فإن معدل المدة الزمنية للصورة التلفزيونية لا يتعدى ثلاث ثوان ونصف في مجمل الصورة التلفزيونية (كمباريات كرة القدم والمسابقات التلفزيونية والبرامج الحوارية وغيرها)، لذا فإن وقع الصورة شديد في مجال الأخبار التلفزيونية وزخمها قوي بين تحقيق هدفين (معولمين): تقديم أكبر قدر ممكن من المادة الإخبارية في أقل مدة زمنية لمواكبة تسارع الأحداث زمنياً، وثانيا إبعاد الملل عن المتلقي خوفا من خسارته لصالح قناة أخرى، مما يعني خسارة في المكسب المادي.
وعن العلاقة بالتكنولوجيا، فقد يرى البعض ـ ولتلك النظرة وجاهتها- أن المادة المصورة جماهيرياً، والتي مكنت الجمهور من تسجيل الحدث عيانا بواسطة وسائل تكنولوجية بسيطة (كالهواتف النقالة وكاميرات اليد)، لها مصداقية، وبالذات إن كانت تمثل موقف النور في وجه الرصاصة كما هو الحال في العديد من الساحات الثورية العربية، إلا أن مصداقية تلك الصورة لتفاصيلها الثورية لا يعني بالضرورة ولا يعكس مصداقية خطاب/نسق صوري ستتموضع فيه، لا يمكن أن ينفي إنتقائيته للمادة المصورة جماهيريا بما لا يشكك من مصداقيتها ومضوعيتها، في انفصال عن أهداف الخطاب الإعلامي وأداته الصورة.
ويقودنا ذلك إلى ‘النقل الحي’ للحدث باعتباره توحدا بين الحقيقة والمعنى، حيث يندرج النقل المباشر تحت ما يسمى المسلمات والذي فيه يتوازى السرد مع بداية الحدث، فينسى المشاهد أن المسافة بين السرد والحدث (الصورة) هي مسافة ‘بناء معنى’، وليست مسافة ‘حقيقة’، وهنا يكون الجر للمشاهد جراً ناعما ولينا، عن طريق وجاهة الاطلاع والمشاركة الحية في الشهادة على الحدث/الصورة، تاركاً حيز تشكيل/تلقي/استقبال المعنى ملكاً لخطاب إعلامي سردي يقارب في بهرجته ‘الحقيقة’ الصورية ‘الخاطفة للأبصار’، ليصبح للنقل الحي للحدث سحره، فتغدو فيه الصورة التي لا تأتي وحيدة مرادفة للواقع ومرجعاً له، تمارس تأثيرها فيه ايضاً، لا بشكل بحثي نقدي، بل بالإحالة.
إن ‘الصورة’ في فضائنا الإعلامي لا تحقق ‘الحقيقة’ ـ بحكم استحالة تحقيق قيمة حياد الاعلام المطلقة وبالذات في عصر الصورة/السلعة المعولمة-، وحتى ‘بناء المعنى’، ليس هاهنا بناء نقديا، إنما الصورة هي هنا إغراء حواسي عاطفي، هدفها تحقيق الاجماع حولها، بمنطق الخضوع للجماعة التي تنتمي الصورة ـ هرميا في مرحلة ما- لخطابها، وتضغط نحو استنساخ الصورة النمطية، في أشكال صورية ولفظية تحرك الذاكرة الجمعية والمشتركة، أو لتوظيف حدث ما للمصلحة.
ومن هنا يكمننا الإشارة إلى فضاءين ينزعان عن ‘مبنى المعنى’ و’الحقيقة’ المفترضين في الصورة الإخبارية والتلفزيونية فضاءهما وحياديتهما:
1.الفضاء الذي تتحرك فيه القنوات التلفزيونية (الفضائية والأرضية) العربية، والذي لاتزال فيه تابعة ـ في مجال الصورة ـ للوكالات العالمية المتخصصة ووكالات الأنباء العالمية، مما يعني استتباعا وارتهانا لفضاءات تلك الصورة السياسية والثقافية والحضارية.
2.فضاء يتحدد بتاريخ عمليات التصوير والأيقنة العربية منذ بداية عهد الفضاء الاعلامي العربي، والذي لم يعدو كونه أداة بناء الدولة الوطنية القطرية، وتمجيد الكراسي والسياسات وعبادة الفرد، كأداة ايديولوجية للتجنيد والتعبئة والشرعنة للحكم لدى قطاع واسع من المشاهدين، بلغ الحد بهم ‘تقديس’ النص الإعلامي بكامل اركانه، محولا الإعلام وإن كان أداة حداثية تتلبسها مقولة مرجعية العقل، إلى أداة سيطرة.
مما ينتهي بالخبر من ناحية الصورة إلى كونه: ‘موردا اجتماعيا تؤدي آليات تشكيله إلى انتاج سلسلة من القيود والمحددات التي تؤطر بدورها أشكال المعرفة التي يمكن انتاجها وندعوها ‘واقعاً’.

*كاتب وباحث سياسي وناقد أدبي