مازن درويش
العديد من دعوات اعادة اللاجئين في أوروبا بدأت تعلو أصواتها في هذه الأيام، فمن الدنمارك التي بدأت بخطوات عملية على المستوى التشريعي بهذا الخصوص، الى فرنسا التي تحاول حكومتها التغطية على الفشل الاقتصادي والسياسي من خلال المغامرة بحروب مجتمعية داخلية، وصولاً إلى ألمانيا التي يطرح فيها وزير الداخلية هورست زيهوفر إلغاء قرار حظر اعادة اللاجئين السوريين الذي يٌجدّد سنويّاً منذ العام 2012. إنّ اعادة اللاجئين السوريين الى سوريا سيعرّض الغالبية العظمى منهم الى خطر الاعتقال والتعذيب وربما الموت خصوصاً، هذا وإنّ كافة الاسباب التي دفعتهم لترك بيوتهم وأعمالهم وحياتهم لا تزال قائمة كما هي، وهذا ليس مُجرّد توقع وإنما حقائق تمّ رصدها وإثباتها من قبل العديد من المنظمات الحقوقية ومنها “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا” الذي رصد حالات اعتقال وموت تحت التعذيب بين العدد القليل من اللاجئين الذين غامروا بالعودة الى سوريا مرة اخرى بسبب الاوضاع الإنسانيّة الكارثية التي يعيشونها خصوصاً في دول الجوار مثل لبنان.
رغم هذا، إلاّ أنّ مثل هذه الاصوات بدأت تلقى تأثيراً واسعاً في العديد من الدول ومنها ألمانيا التي لا تشكل استثناءً من حيث نمو طبقة من الموظفين السياسيين ممّن همهم الأساسي اعادة انتخابهم مهما كانت الوسائل والتكاليف على الطريقة “الترمبية” في الوقت الذي أكثر ما نحتاج له في هذه الأوقات الصعبة عالميّاً هو قيادة سياسية أخلاقية تستطيع التفكير بالمستوى الاستراتيجي بعيداً عن المكاسب الشخصية الصغيرة.
إنّ استغلال قضية اللاجئين والإسلاموفوبيا من قبل بعض السياسيين من أجل أهداف انتخابيّة أمرٌ خطيرٌ للغاية، ليس فقط على اللاجئين السوريين وإنّما على ناخبي أولئك السياسيين الألمان بشكل أساسي، خاصّة في هذا التوقيت الذي تعاني فيه شريحة واسعة من المواطنين الألمان من الآثار الاقتصادية والاجتماعية لوباء كوفيد 19. فبالاضافة الى كون مثل هكذا قرار غير أخلاقي ويتعارض تماماً مع المنظومة القيمية لحقوق الإنسان كونه يٌعرّض حياة هؤلاء اللاجئين لخطر حقيقي، إلاّ أنّ الخطر الأكبر في الحقيقة يكمن في أنّ نشر مثل هذه الدعوات في المجتمع الألماني وفي أوروبا اجمالاً في هذا التوقيت لا يخرج عن كونه مُجرّد استعادة ممجوجة لأجواء الثلاثينات من القرن العشرين القائمة على الكراهية ورفض الآخر والعنصرية والانغلاق القومي والديني، وتحميل الآخر المختلف مسؤولية كافة المشاكل التي نمر بها، الأمر الذي لن ينتج عنه سوى التأسيس لمنظومة سياسية تستبيح كافة القيم الانسانيّة، خصوصاُ أنّ الاجيال الجديدة لم تعش تلك المرحلة السوداء من تاريخ البشرية، والعديد من السياسيين في أوروبا بدأوا بنسيان ماذا تعني هذه الأمور بعد مرور أكثر من سبعين عام من السلام والتقدم الاقتصادي والعلمي بعد الحرب العالمية الثانية.
علينا ألا ننسى أنّ الديمقراطية لا تأتي كشيء افتراضي مع نشوء الدولة وإنّما هي نتيجة لكفاح طويل خاضته البشرية خلال مئات السنين ضدّ الكراهية والاستبداد والتمييز والانغلاق القومي قد كلفها الكثير من التضحيات والأثمان الباهظة، وأنّ الانجرار مع مثل هذه الدعوات الشعبوية من سياسيين همهم الأساسي الحفاظ على وظائفهم العموميّة من خلال أصوات المواطنين الخائفين لا يمكن أن يُشكّل الاّ مقامرة بكل ما تمّ إنجازه خلال العقود السبعة الأخيرة.
يجب أن ينطلق التفكير بعودة طوعية وآمنة وكريمة للاجئين من إيجاد حلول عملية وأخلاقية تعمل على معالجة الاسباب التي دفعتهم للجوء، وعلى رأسها وجود نظام دكتاتوري مارس كل أنواع جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة بحق المواطنين المدنيين، بالاضافة الى وجود تنظيمات متطرفة في بعض المناطق. ربما تكون الخطوة الأولى هي دعم اتفاق سلام متوافق مع قرار مجلس الأمن 2254 الذي يضمن انتقال سياسي وعدالة انتقالية تكون المحاسبة جزء من بٌنيتها. هذان الأمران الأخيران هما الضامن الحقيقي لعودة آمنة وطوعية وكريمة للاجئين، وغير ذلك يبدو قرار وزراء الداخلية فيما لو تمّ اعتماده – بالنسبة لي كلاجئ – كمن يطلب مني منح القتلة فرصة اخرى لقتلي مع عائلتي بينما استطعنا النجاة في المرة الاولى. ويبدو مثل هذا القرار للتنظيمات المتطرفة كغاز الاوكسجين الذي يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة، فهذه التنظيمات ايضاً تعتاش على ذريعة الخوف ورفض الآخر والكراهية، وبحاجة الى وجود اللاجئين في أوروبا في بيئة غير مستقرة وغير آمنة لتتمكن من تحويلهم بسهولة إلى “ذئاب منفردة”.
وفي كلمات أخرى، عوضاُ عن مساعدة هذه التنظيمات المتطرفة بتأمين البيئة والأرضية الخصبة لنشاطهم ودعوتهم الايديولوجية، فمن الاجدى قطع الطريق عليهم من خلال إعادة تقييم سياسات الاندماج وايجاد حلول للمشاكل الطبيعية التي يمر بها اللاجئ – وخصوصاً ضحايا الحروب والنزاعات – وتمكين القيادات الديمقراطية وتعزيز دور هيئات المجتمع المدني، وارسال اشارات حقيقية باتجاه دعم العدالة والمحاسبة، والبناء على الخطوات الجادة مثل محاكمة المشتبه بارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في “كوبلنز- ألمانيا”، والبناء على النجاحات التي يحققها اللاجئون السوريون في ألمانيا، بدلاً من تسليط الضوء وتضخيم حالات الجريمة والتطرّف المرتكبة من قبل بعضهم وربطها بأصولهم العرقية أو الدينية في الوقت الذي تتوافق نسبتها وطبيعتها عموماً مع ذات النسبة والطبيعة المُسجّلة للجرائم وحالات التطرّف “الأبيض” بين المواطنين الالمان انفسهم وفقاً لاحصائيات وزارة الداخلية الالمانية.
ربما هذه دعوة لاعادة التفكير على المستوى الاستراتيجي في مصالح أوروبا عموماً، وألمانيا بشكل خاص، انطلاقاً من أنّ سوريا ليست ذلك المكان البعيد على الخريطة، وإنّما هي في وسط أوروبا بالمعنى الجيوسياسي الفعلي، والسوريون ليسوا مُجرّد ضحايا مساكين أو متطرفين فعليين ومحتملين وإنما شركاء حقيقيين وأصحاب مصلحة في دعم نظام عالمي خالي من الإرهاب والاستبداد. أثبتت التجربة انّه لا يمكن الفصل بينهما وأنهما وجهان لعملة واحدة كلاهما يشكل حبل السرة للآخر، وبناء عليه لا يحتاج اللاجئون السوريون الى اغراءات مالية او اجراءات تعسفية تؤسّس للتضحيّة بالمنظومة الاخلاقية التي بنيت عليها النظم الديمقراطية في أوروبا من أجل العودة الى بلدهم والمساهمة في بناء مستقبل أفضل لأطفالهم، بل حاجتهم الاساسيّة تكمن “بخطة مارشال” سياسيّة واقتصاديةّ تساعدهم في إنجاز انتقال ديمقراطي حقيقي يكون حجر الزاوية في بناء دولتهم على أسس حرية التعبير والاعتقاد والديمقراطية والكرامة الانسانية حتى يكونوا شركاء حقيقيين في بناء مجتمع عالمي خالي من التطرّف والاستبداد.
المقالة منشورة على موقع صحيفة WELT باللغة الالمانية على الرابط التالي: https://www.welt.de/debatte/kommentare/plus222379660/Syrien-Ich-bin-ein-Fluechtling-der-zurueck-moechte.html