80% من النساء تعاني من سوء التغذية بالمخيّمات…. على خطّ الموت تعيش النساء السوريات!

80% من النساء تعاني من سوء التغذية بالمخيّمات…. على خطّ الموت تعيش النساء السوريات!

على خط الموت: أمّهات تعانين من سوء التغذية وأجنّة لا ترى النور

سيماف حسن ورنيم خلوف

لم تكن تعلم “منتهى الحمدو” 17 عاماً تقطن في مخيم (واشو كاني لنازحي رأس العين) أنّها لن تستطيع اختيار اسماً لمولودها الجديد، أو ربّما اختارت الاسم في سرها وغادرت إلى مثواها الأخير في أيّار المنصرم من هذا العام دون أن تراه ولو لمرّة واحدة، أو ربّما قلب الأم جعلها تحسّ به فقط حتّى بعد أن خرجت الروح من الجسد، حيث بدأت في الشهر ذاته تظهر علامات الولادة المبكّرة على الصبيّة القاصر عمراً، وهي في شهرها الثامن، الذي صادف شهر أيار عام 2024 على التقويم الميلادي، لتزور أقرب نقطة طبية في المخيّم، فتبيّن أنّها بحاجة لعناية مركّزة، نتيجة وجود حالة ولادة مبكرة، ليتمّ إحالة حالات الولادة إلى مشفى العزيزية، الذي يبعد حوالي 25 دقيقة عن المخيم. 

تقول بشرى العيدان ابنة خالة المتوفاة ومرافقتها وهي تقيم في ذات المخيم: “اعتمدت منتهى اعتماداً أساسياً في غذائها خلال فترة الحمل على البقوليات والخضار التي كانت تُوزّع لسكان المخيم ضمن أحد برامج الدعم بالسلل الغذائية التي توفرها منظمة Global Communities، حيث قرّر الأطباء أن تكون الولادة قيصرية نظراً لوجود فتحة في القلب، لكنّها ولدت بشكل طبيعي وتوفيت أثناء الولادة، أحال الأطباء سبب الوفاة إلى نقص بالأكسجة ونقص حاد بالتغذية إضافة إلى حصول تضخّم بالقلب أدى إلى وفاتها”، عاش الطفل 20 يوماً في الحاضنة وتحسنت صحته، ليعود إلى المخيم دون أم، بحسب بشرى.

مخيم واشوكاني، هو واحد من 7 مخيمات “غير رسمية” موجودة في مناطق شمال وشرق سوريا، يضمّ 16.096 فرداً حسب الأرقام الأخيرة الصادرة عن مجموعة عمل المواقع والمستوطنات البشرية في تقريرها عن شهر أيلول/سبتمر 2024 المستند إلى تحديثات من وكالات إدارة المخيمات والشركاء من المنظمات غير الحكومية ومجموعات العمل القطاعية، ويشير التقرير إلى وجود فجوة في – مسار الإحالة إلى المستشفيات وفي إحالة الحالات الطارئة إلى المستشفيات في الحسكة.

خريطة توضح المسافة بين مخيم واشوكاني و أقرب مشفى والذي هو مشفى العزيزية في الحسكة الذي تحال إليه حالات الولادة – Google Map

ومن جهة أخرى حسب مركز الحوار السوري الذي أجرى ورقة استكشافية في كانون الأول/ديسمبر 2021 بعنوان” بلا أستار بلا حماية، الجانب الخفي من حياة النساء في المخيمات“، فإنّ  37% من الأمهات في المخيّمات السورية يعانون من سوء التغذية، كما تؤثّر ارتفاع معدّلات الإنجاب المُلاحظ في المخيّمات وحالات الحمل المتكرّر والمتقارب على صحّة النساء لا سيما مع عدم توفر أيّ رعاية طبية أو نسائية في المخيّمات، وعدم قدرة المراكز الطبية على تقديم الخدمات على النحو المطلوب.

وحسب ما ذكر موقع منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف، أنّ امرأة واحدة تموت كلّ دقيقتين بسبب الحمل أو الولادة ما يشير إلى تراجع كبير في صحّة الأم حول العالم، وعدم قدرتها على الوصول إلى الرعاية الصحية اللازمة، كما لا تزال تتركّز وفيات الأمهات إلى حدّ كبير في أفقر أجزاء العالم، وفي البلدان المتأثرة بالصراعات، ومنها سوريا، وينطبق ذلك على مناطق شمال غرب سوريا، التي تشهد ضعفاً في المنظومة الصحية بعد 12 عاماً من القصف والعمليات العسكرية والنزوح، وظروفاً “غير مواتية” بالنسبة للنساء الحوامل، خاصّة في المخيّمات، بينما تُظهر الأمهات الحوامل والمرضعات مستويات قياسية من الهزال الحاد، وفق معلومات نشرها الموقع الرسمي للأمم المتحدة عام 2022.

وللبحث أكثر في موضوع الأمن الغذائي للنساء في المخيمات، وانعكاسه على صحتهنّ الإنجابية، وزعت باحثتا فريق التحقيق 100 استمارة الكترونية، على سيدات في مخيمي (واشوكاني شمال شرق سوريا، ومخيم تلمنس شمال غرب سوريا) واحتوت الاستمارة على مجموعة من الأسئلة المغلقة والمفتوحة، للوصول إلى نتائج مئوية ونسب بيانية، وحكايا واقعية بذات الوقت من خلال بعض الأسئلة المفتوحة، وذلك لكونها طريقة يمكن من خلالها الوصول لإجابات وبنفس الوقت لا تعرّض الباحثات لخطر المخيمات ومن يسيطر عليها، وتم التوزيع خلال شهر آب عام 2024.

إمّا الموت أو المرض لا خيار ثالث!

تعرض وسائل الإعلام بشكل دائم مواضيع متعلّقة بالصحة الجنسية والإنجابية في مخيمات النزوح بسوريا عموماً، وفي شمال وشمال شرق البلاد خصوصاً، وفي تقرير صادر عن تلفزيون سوريا ومقره في إسطنبول، تناول موضوع “غياب الرعاية الإنجابية يلاحق النساء في مخيمات شمال سوريا“، وأشار التقرير إلى أن 87% من المخيّمات تعاني من نقص النقاط الطبيّة والعيادات المتنقلة ما يجعل من الصعب الحصول على الرعاية الصحية اللازمة، كما ركّز التقرير على أهمية تناول النساء الحوامل لموضوع الغذاء الصحي والآمن كنقطة جوهرية للصحة الإنجابية، وفي هذا السياق تحدّث الدكتور إياس عثمان من دمشق، وهو مختص بالتوليد وأمراض النساء، للمركز السوري للإعلام وحرية التعبير قائلاً: “إنّ عدم الاهتمام بالتغذية الجيدة للأم أثناء الحمل قد ينعكس سلباً على صحة الأم أو الجنين، وتصاب الأم بعدّة أمراض أهمها فقر الدم الحاد، النزيف، الوفيات، نقض الوزن عند الولادة، الهزال، تأخر نمو الطفل، ولادة جنين ميت”، وأكد عثمان أنّ سوء التغذية عند الأم يعتبر عاملاً مهمّاً يساهم في الإجهاض العفوي عن طريق تغيير مورفولوجيا الخلايا، ومع ذلك، العلاقة بين تغذية الأم والإجهاض العفوي معقّدة وتتأثر بالعديد من العوامل البيولوجية، الاجتماعية، الاقتصادية وعوامل نمط الحياة، والتي تختلف بشكل كبير في مجموعات سكانية مختلفة.”

بينما تحدثت طبيبة  التغذية روعة التجار للمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، عن مجموعة من الأغذية والمعادن التي يجب أن تتناولها الأم، وأكّدت على تنوّع مصادرها النباتي والحيواني: “في المرتبة الأولى الكالسيوم الموجود في الحليب ومشتقاته، البروتين النباتي والحيواني الموجود في اللحوم والمكسرات، والنشويات كالأرز والبرغل، وحذرت طبيبة التغذية من تناول السكريات المصنّعة، وأكّدت على السكريات الطبيعية كالفواكه الطبيعية، وتوافقت مع طبيب النسائية على أنّ غياب أيّ من هذه الأصناف يعرضها لمخاطر في الصحة الإنجابية عليها وعلى الجنين معاً.”

وخلال الاستبيان الذي وزعته معدتا التقرير على 100 سيدة تتراوح أعمارهن من 15 ل 40 سنة، في المخيمين المذكورين أعلاه، أتت النتائج صادمة، حيث أشارت 83% من النساء اللائي شاركن بالاستبيان، أنّهن لا تحصلن على كلّ أنواع الأطعمة خلال فترة الحمل، وكانت النسب متقاربة بين من تحصلن ولا تحصلن على المكمّلات الغذائية، وأثّر ذلك على صحتهن الإنجابية حسب النتائج الموضحة في الرسوم البيانية: 

هل كنتِ تحصلين على كل أنواع الأطعمة خلال فترة الحمل؟

هل حصلتِ على المكملات الغذائية فترة الحمل؟

هل كانت لديكِ مخاطر ولادة مبكرة؟

تظهر النتائج مقاطعةً مع تصريحات الأطباء أنّ أكثر من نصف النساء في مخيمي “واشوكاني وتلمنس” في شمال شرق وشمال غرب البلد يعانين من نقص تغذية حاد، ما ينعكس سلباً على صحتهن الإنجابية، ويعرضهنّ للموت والمرض.

بلسان شهود عيان .. معاناة بالجملة!

فقدت إحدى السيدات اللاتي شاركن في الاستبيان ثلاثة من أجنتها نتيجة لسوء التغذية الحاد الذي كان يعاني منه الأجنة وأجهضت مؤخّراً للسبب نفسه، اعتمدت تغذية السيدة التي تسكن في مخيم واشوكاني على النشويات وتقول أنّها لم تحصل على أيّ أطعمة أو سلل غذائية خاصة بالحوامل حسب إجاباتها على الاستبيان. 

لا تملك وزارة الصحة في مناطق سيطرة حكومة النظام السابق أيّ معلومات عن المخيمات، وصرّح مصدر رفض ذكر اسمه لمعدتي التقرير أنهم يهتمون فقط بمناطق سيطرة الحكومة، وأنّ المنظمات الدولية تبذل قصارى جهدها لتأمين كلّ ما يتعلق بالأمور المتعلقة بالصحة الإنجابية، سواء الغذاء والمكملات والعلاج، ويوجد الكثير من العيادات المتنقلة في الأماكن التي عاد إليها أهلها، وكانت ساحة اشتباكات في الحرب وذكر على سبيل المثال مخيم اليرموك الفلسطيني.

خريطة المخيمات في شمال غرب سوريا (المصدر: Map Action) أيار/مايو 2020

بينما تعاني مخيمات شمال وشمال شرق من “مجازر صحيّة” على حد تعبير شهود عيان وناشطين وناشطات في المخيمات، حيث تقول جمانة العبد الله قائد فريق لنشر الوعي في مخيمات الشمال السوري كافّةً: “أبرز معاناة مخيمات الشمال عدم وجود نقاط طبية قريبة، حيث تبعد أقرب نقطة طبية 8 كم، كما تجهل النساء في المخيمات مواضيع الصحة الإنجابية رغم محاولات حملات التوعية الكثيرة، لكن المجتمع وأفكاره هم الغالبون” على حدّ تعبيرها. يتقاطع حديث السيدة جمانة، مع حديث نورا خليل وهي ناشطة تعمل في مخيمات شمال شرق سوريا، قائلةً: “لا يمكن القول إنّ المساعدات المتعلقة بالنساء معدومة” بل التوصيف الأدق حسب الناشطتين أنها “قليلة أو ضئيلة جداً”، وتشير خليل إلى جملة من الأمراض التي تعاني منها النساء في مخيمات شمال شرق وشمال سوريا أيضاً وهي “فقر الدم، سوء التغذية الذي ينعكس على صحة الجنين والأم معاً، نتيجة نقص الغذاء المتوازن والمعاناة من نقص الفيتامينات والمعادن الأساسية،  النزيف، هبوط الرحم، إضافة إلى أمراض كثيرة نفسية وجسدية مرتبطة بعوامل النظافة والوضع الاجتماعي في المخيمات”، وينوه عبد الحميد علي (اسم مستعار) 35 عاماً وهو ناشط نسوي في منظمة مدنية يقدم خدمات رعاية في مخيمات شمال غرب سوريا: “أنّ انعكاسات كل هذه الأزمات الصحية المتعلقة بسوء التغذية والهزال تنعكس مباشرة على الصحة الإنجابية للطفل، والذي تحرمه من الرضاعة الطبيعية”، ويتابع قائلاً: “تسعى المنظّمات جاهدة لتوفير المتطلبات الأساسية للنساء في المخيمات حسب الظروف التي يعيشها هذا المخيم أو يمتثل لها، ففي ظلّ الاحتياجات الأساسية يتمّ تأمين المستلزمات الرئيسية للنساء مثل الخيمة والكساء والغذاء وبعض الطبابة، بالإضافة الى تقديم الرعاية وخدمات الدعم النفسي والاجتماعي، حسب البرامج التي يتم اتخاذها، وهناك برامج مخصّصة بقسم الصحة الإنجابية ورعاية الأمّهات والأطفال لكن من الواضح، أنّها غير كافية وملبّية لكلّ الاحتياج حسب ما تمّ رصده من حالات في المخيّم، فالمنظّمات التي تعمل في مجال الصحة الإنجابية وتقديم خدمات الامن الغذائي للحوامل، غالباً ما تكون محدودة ومؤقتة تقتصر على توزيع أغذية سوء الامتصاص والأدوية المتمّمة والسلل الصحية والتي ينتهي دورها بعد الولادة.”

لا يختلف الوضع في مخيمات شمال شرق سوريا الرسمية والمدعومة من قبل وكالات الأمم المتحدة عن وضع المخيمات غير الرسمية، يفيد التقرير الأخير الصادر عن مجموعة عمل المواقع والمستوطنات البشرية بوجود فجوة في تقديم الحصص الغذائية الخاصة بالحوامل في مخيم العريشة الذي كان ملجأً لـ 2690 عائلة من نازحي دير الزور الفارين من تنظيم داعش منذ 2016،. إذ تقول مريم حسن، (اسم مستعار لناشطة مدنية عاملة في منظمة تقدّم خدماتها في مخيم العريشة)، “تعتمد النساء الحوامل غالباً على محتويات السلّات الغذائية، بينما يتمّ تقديم الزبدة البرتقالية التي تعد متمّماً عذائياً معتمداً للنساء اللاتي يعانين من سوء التعذية، لكنّ معظمهن يلجأن لبيعه بمبلع 4500 ليرة سورية للكيس الواحد”، وتضيف “يصل عدد النساء الحوامل اللاتي تعانين من سوء التغذية الحاد والمسجلات لدى برنامج الغذاء العامي والهلال الأحمر الكردي إلى أكثر من 79 سيدة، العدد الاجمالي أكبر لأنّ بعض السيّدات لا تقمن بمراجعة النقاط الطبية ونقاط الصحة الانجابية وبعضهن الآخر يتلقين العلاج لدى منظمات أخرى عابرة للحدود.”

صورة حصريّة تظهر طفلين يعانيان من سوء تغذية حاد في إحدى النقاط الطبية في مخيم العريشة (6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024) مريم حسن، ناشطة مدنية

أرقام صادمة!

تتطابق أحاديث شهود العيان في المخيمات مع نتائج الاستبيان الذي وزعته معدتا التقرير على النساء في      المخيمين، اللذين كانا عينة عمدية ( العينة الغرضية) في التحقيق، حيث أشارت النتائج أنّ غالبية النساء عانين من أمراض بعد الولادة، أهمها على الإطلاق سوء التغذية والالتهابات والالتصاقات بالرحم، ولادة أطفال بأوزان قليلة جداً، وأكّدن أنّ أقرب مركز لخدمات الرعاية الطبية يبعد عن المخيم نصف ساعة، وأكّدت على هذه المعلومات  منظمة “منسقو استجابة سوريا” المتخصّصة بجمع المعلومات والإحصائيات في مناطق شمال غرب سوريا، والتي قالت عبر بيان نشرته في شهر أيار/مايو من العام الحالي إنّ “أكثر من 87 في المئة من المخيمات تعاني من نقص النقاط الطبية والعيادات المتنقلة”. وأكّدت صعوبة نقل المرضى إلى المستشفيات القريبة، خاصّة وأنّ وضع جلّ النازحين المادي يبقى مترديّاً، وهم غير قادرين على تأمين العلاج الذي تتطلبه الحالات الطبية دون استثناء، فيما كانت المنظّمة قد أعلنت سابقاً في شهر أيار/مايو من العام الحالي أنّ 89.3% من المخيّمات الموجودة في شمال سوريا تعاني من انعدام الأمن الغذائي وتعاني “96.4% منها من صعوبات في تأمين مادة الخبز.” 

توضّح النتائج التالية جملة من الأرقام التي تظهر معاناة النساء في الأمن الغذائي وصحتهن الإنجابية

عندما تصل نتيجة سوء التغذية إلى 80% من عينة صغيرة في مخيمين، فإنّ المؤشّرات تنبئ بكارثة قد حصلت، فكم أم وطفل معرّض للموت نتيجة عدم تحقيق الأمن الغذائي؟ حيث أشارت تقارير للأوتشا أنّ شمال غرب سوريا شهد ارتفاعاً كبيراً في معدّلات سوء التغذية، حيث ارتفع معدل انتشار سوء التغذية الحاد العالمي (GAM) إلى ما يقارب من خمسة في المائة في عام 2023، وهو ما يمثّل زيادة قدرها ثلاثة أضعاف منذ عام 2019. واليوم، كل 9 من كل 10 أطفال في سورية لا يتناولون وجبات غذائية مقبولة في الحدّ الأدنى، ممّا يؤدي إلى حالات التقزّم والهزال. ويحتاج أكثر من 500 ألف طفل دون سن الخامسة في إدلب وريف حلب الشمالي بشكل عاجل إلى علاج سوء التغذية الحاد، ويعاني ما يقارب من 108,000 طفل من الهزال الشديد. ويتفاقم الوضع بسبب تفشي الأمراض وخدمات الصرف الصحي المحدودة ونقص الغذاء.

إذاً أيّ الكوارث تنتظر النساء والأطفال في سوريا؟

هذا التحقيق جزء من مشروع ينفذه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ونُشر في مجلة صور بتاريخ مجلة صور بتاريخ 30 كانون الثاني / يناير 2025 وبإشراف الدكتورة منى عبد المقصود