نظرية التطور في شارع الصحافة
ترتيب أولوية الأخبار يعكس اهتمام القارئ والمستمع والمشاهد
صحيفة “الشرق الأوسط”- لندن: عادل درويش
انقلاب في «فليت ستريت» (شارع الصحافة البريطاني) في ترتيب الخبر الخارجي بعد امتزاجه بالخبر الداخلي، لتصبح أوروبا وأزمة منطقة اليورو (مكونة من 17 بلدا عدا بريطانيا) أهم خبر خارجي بينما لعب «تويتر» في يد الصحافيين دورا محوريا (غير مقصود) في إحراج الحكومة سياسيا.
ترتيب أولوية الأخبار، من المانشيت المطبوع أو الخبر القائد lead story في التلفزيون لا يرتبط بأولويات الحكومة بقدر ما يعكس اهتمام القارئ والمستمع والمشاهد (المستهلك الصحافي).
اجتماع التحرير لترتيب الأخبار ومساحتها لا يعرف المشروع الوطني أو المسؤولية القومية، بل يهمه توزيع أكبر عدد وتفادي انتقال المشاهد من نشرة الأخبار إلى قناة أخرى.
تعريف المدرسة الكلاسيكية لـ«الخبر الخارجي» هو وقوعه خارج الوطن، وغالبا ما يغطيه مراسل خارجي في بلد الحدث، أو متجول يتبع الديسك الخارجي Foreign Desk. والاستثناء هو العلاقة بالداخل كرحلة زعيم الحكومة في الخارج (إذا اهتم القراء) أو زيارة الملكة لقمة الكومنولث في أستراليا (وأخبار الملكة بلا استثناء تضمن زيادة التوزيع). التغطية هنا من نصيب المراسل البرلماني الذي يصاحب رئيس الوزراء في الطائرة، أو مراسل الشؤون الملكية، في حال الملكة.
الصحيفة تدفع نفقات المراسل المصاحب لوفد رئيس الحكومة بالكامل؛ إما للمكتب الصحافي في «داونينغ ستريت» إذا استأجرت الحكومة الطائرة، أو مباشرة لوكالة السفر والفنادق، بإذن من مدير التحرير.
مدير التحرير في الصحافة الأنغلوسكسونية لا علاقة له بالتحرير الخبري كالصحف العربية؛ فمهمته إدارية، كميزانية المصروفات، ورعاية شؤون الصحافيين، والإجازات، ونوبات العمل.
ولا يوجد منصب «سكرتير التحرير» وإنما محررو الصياغة الخبرية subeditors لتهذيب تقرير المراسل، وضبط الصياغة فتنسجم وأسلوب الصحيفة style-book الذي يميزها عن الأخريات.. انخفض عددهم مع التكنولوجيا إلى نحو 6 – 8 في كل ديسك، ورئيسهم chief sub، ربما المقابل في الصحف العربية المدير أو سكرتير التحرير للديسك فقط.
ولا يتوقع رئيس الحكومة أن يصاحبه رؤساء التحرير في رحلاته الخارجية، كحال الصحف العربية؛ بل الصحافي المتخصص (المراسل البرلماني في حالة رئيس الحكومة، ومراسل الدفاع مع وزير الحربية). المجتمع الديمقراطي يعتبر رئيس تحرير صحيفة كبرى أكثر نفوذا (ومرتبه ثلاثة أضعاف) من رئيس الحكومة، فيحاول الأخير استرضاء رؤساء التحرير وليس العكس.
المراسل البرلماني المتابع لتنقلات زعيم الحكومة يتبع الديسك الداخلي Home news. وأحيانا ما يستغرب الزملاء العرب والأفارقة من ابتعاد أسئلة الصحافيين المرافقين، كما حدث أثناء المؤتمر الصحافي لديفيد كاميرون في ليبيا، عن موضوع الزيارة والتركيز على فضيحة وزير، وإلقاء آخر مراسلات رسمية في قمامة حديقة عامة.. فما يهم القارئ يصبح موضع السؤال، وتنقلات رئيس الحكومة.
ترتيب أولوية الخبر الخارجي ومساحته يحددها اهتمام القارئ الذي جعل تسونامي اليابان ومصرع القذافي يسبقان أخبار رئيس الحكومة.
وصول بطل رياضة أو نجم إلى بلد أجنبي خبر خارجي بطبعه يحتل الصفحة الأولى في التابلويد (الصحافة الشعبية)، فقراؤها، وهم بالملايين، يهمهم النجوم أكثر من رئيس الحكومة الذي أحيانا ما يتعمد رئيس التحرير البحث عن أخبار تحرجه، ليس خصومة؛ بل سعيا لزيادة التوزيع بإرضاء القارئ عند انخفاض شعبية الحكومة أثناء الأزمة اقتصادية.
وحسب اهتمام القارئ، أخبار أميركا هي الأولى في الخارجيات، فالشرق الأوسط، فشبه القارة الهندية، فالكومنولث، فأوروبا، التي جعلها الانقلاب الاقتصادي مع أزمة اليورو واليونان تزيح أميركا من القمة.
ولا مقارنة بين الأفضل والأسوأ في اختلاف معالجة الصحف للخبر؛ فرئيس التحرير البارع يقدر توقعات القارئ المواظب على صحيفته لسنوات، فيضبط أسلوب المعالجة بما اعتاد القارئ رؤيته عندما يطل من نافذته المفضلة (أي الصحيفة) على العالم.
الـ«إندبندنت» والـ«غارديان» و«بي بي سي»، مرآة لليسار البريطاني الليبرالي – قراء وساسة – المتحمس لوحدة أوروبا السياسية. بقية الصحافة، تعكس رغبة أكثر من ثلثي البريطانيين في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
في الأسبوع الماضي واجه كاميرون، رئيس حكومة ائتلاف المحافظين (المتوجسون من أوروبا)، والأحرار (المتحمسون للوحدة الأوروبية)، تحديا برلمانيا بعد نجاح نواب من حزبه في طرح الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي للتصويت في مجلس العموم.
المشاهد والقارئ للصحف العربية معذور في اعتقاده بانتصار الزعيم البريطاني على خصومه بفارق ثلاثمائة صوت، بينما قراء الصحافة الإنجليزية يرون بوضوح آثار السياط السياسية على ظهر كاميرون الذي انتصر ظاهريا بمساعدة المعارضة وليس نوابه.
الأصوات المضادة لكاميرون (111) تضمنت 28 من نواب الحكومة، بينما امتنع 65 آخرون عن التصويت مخالفين ضغوط «الكرابيج الثلاثية» Three-line-whip. (اسم مجازي لمجموعة رئيسهم chief whip) بحقيبة وزارية يمارسون الضغط على نواب الحزب ليصوتوا حسب أوامر زعامته، أي 147 نائبا من جملة 306 (قرابة النصف) نود رفضوا القتال وراء راية القائد في المعركة السياسية.
ضغوط الكرابيج الثلاثية (من ترهيب وترغيب) شملت أحزاب الحكومة والمعارضة لهزيمة مشروع الاستفتاء على أوروبا؛ وكشفتها الصحافة عشية التصويت في تحقيقات وافتتاحيات. كما لعبت – دون قصد – دورا محوريا في معركة ديمقراطية ظاهرها انتصار لرئيس الوزراء وباطنها هزيمة مروعة له؛ بفضل «تويتر».
شبكة المجموعة الصحافية البرلمانية والنواب والوزراء على «تويتر» كوكالة أنباء ذاتية الإنتاج والاستهلاك تحدد الأجندة الإخبارية العمومية، حيث كشفت زقزقات «تويتر» مثلا (12 ساعة قبل التصويت) نية وزيرين مخالفة توجيهات الحزب والاستقالة من الوزارة.
ظهرت Self feeding political news circle دائرة صحافية ذاتية الحركة: «تويتر» الصحافيين من منصتهم المطلة على النواب في جلستهم يراه النواب على «بلاك بيرى» أو «آي – فون»، ويردون بتعليق يصبح خبرا في 140 حرفا يعاد «تتويره» بتعليق صحافي، في جدل مواز زاد من لهيب التمرد على رئيس الحكومة. دور لم تتعمده الصحافة بل انبثق طبيعيا بتطور وسيلة نقل الخبر.
تقليديا، صدور الحدث كخبر على الصفحة استغرق 12 ساعة (أقلها مدة ثلاث ساعات بزيادة تكاليف الطباعة)، وربما ساعتين بين تصوير الحدث وإنتاج الفيديو وبثه (كقصة خبرية وليس نقلا حيا). «تويتر» نقل فوري لقصة خبرية في 140 حرفا. تحليل الصحافي أو تفسيره لموقف نائب البرلمان يقرأه ناخب الدائرة لحظيا، فيرد موافقا أو محتجا في «تويتر».. يراه النائب فيتمرد على زعيمه إرضاء للناخب القادر على فصله من وظيفته في صندوق الاقتراع بعد أن راقب أداءه تحت مجهر يمسكه الصحافي.
«تويتر» أعاد تأكيد أهمية دور الصحافة المكتوبة كحام للديمقراطية، لا عن طريق مواثيق شرف ولوائح. نظريتا داروين وميندل أكدتا دور الطفرة العضوية لتطوير ملاءمة الكائنات للبقاء بيئيا. بيئة حرية السوق تسبح فيها الحرية السياسية، وحرية التعبير هي غريزة البقاء لصحافة ظهرت فيها طفرة «تويتر» كوسيلة نقل إنتاج ما يرغبه مستهلك صحافي تعود حرية الاختيار.