يامن محمد
عندما بدأ عبد الرحمن الكواكبي مشروعه الصحفي قبل أكثر من مئة عام تحت ظل التعسف العثماني كان يعلم أنه سيقارع السلطة الرسمية المتمثلة بالباب العالي والولاة، عيونهم وآذانهم، وكان يعلم لا ريب ما سيعتري تلك السلطة من قلق تجاه الوافد الإعلامي الجديد بالشكل الذي اقترحه الكواكبي. لكنه كان يعلم الأهم من ذلك، ويعطيه النصيب الأعظم من فكره وطاقاته الذهنية لعبور الدهاليز والمتاهات التي توجب عليه الخوض فيها من أجل ترسيخ تلك "البدعة" الجديدة… بدعة الصحافة "المطبوعة" و"المنشورة" والتي تعنى –كما أرادها- حقاً بما هو ثقافي أخلاقي.. وطني ومدني بالمعنى الحديث للكلمة وتنويري .. ما نقصده، أي ما كان يعلمه أيضاً الكواكبي ويتحسب له ويعد العدة لمواجهته؛ هو بالدرجة الأولى غرابة المسألة عن الناس (تحت ظرف عام… "خاص") و"الممانعة" العادية و"الطبيعية" لما هو جديد وغريب من قبل المجتمع بشكل عام ومن قبل من هو متضرر منها بشكل مباشر وعلى صعيد المهنة ذاتها كوسيلة عيش على سبيل المثال.. كأن يتضرر النّساخ العاديون من وجود اختراع المطبعة مثلاُ.. وضربت صحيفة الشهباء التي كان الكواكبي رئيس تحريرها في افتتاحية العدد الثالث الصادر في 24 تشرين الثاني و6 كانون الأول 1877 الأمثلة على هذا الصراع "الطبيعي" مستذكرة من التاريخ مثال "غتنبرغ".. مخترع المطبعة وما ألم به وبمَنْ أتى بعده من شدائد حتى استقر الاختراع الجديد في دوره المحدث في المجتمع الأوربي عامة، كما لم يفتها التذكير بدور ملك فرنسا "لويس الحادي عشر" بوقوفه إلى جانب "الصناع الجدد" بعد التنكيل بهم فأدخلهم "في حمايته ومنَّهم امتيازات ومساعدات مكنتهم من الثبات"… ولكن هذه الممانعة "الطبيعية" كانت في زمن الكواكبي –وهنا بيت القصيد- واقعة تحت نير استبدادٍ حرص، وهو ما تنبه إليه، على خلق الرابطة العضوية (إن لم توجد أصلاً) وتمتينها والعمل على ديمومتها بين كل منظومات الاستبداد العثمانية وقيمها.. وبين عوامل وقيم ومفاهيم "الممانعة" "الطبيعية" التي من المفروض أنها تمثل النفور – في البدء- مما هو جديد وغريب، ومن ثم "سرعان" ما تتكسر تحت وعي جديد أيضاً يحتم القبول، تحت ضغط وعي يتطور يقوده إدراك المصلحة من جراء قبول ما يحققها.
ما جعلنا نذكر الكواكبي وتلك التجربة أن ذلك التوازن الذي أنشأه الاستبداد العثماني في حينه وأسس لديمومته بمنع المجتمع من الوصول إلى مرحلة مواجهة الجديد بحرية واختيارية لهضمه وقبوله وإدراك المصلحة منه، باستخدام الخيارات الأمنية والرقابية المتاحة كافة تجاه أصحاب "المصلحة" الجديدة من منع إلى تعطيل إلى ملاحقة إلى اغتيال .. (اغتيال الكواكبي) كما التضييق على المجتمع عينه وإفقاره وإرهابه؛ نجح حقاً في إحباط التجارب الصحفية المبشرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصولاً إلى زمن الحكومة الاتحادية ومن ثم مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وقدوم مرحلة استبدادية استعمارية جديدة "فرنسية" وهي كانت للمفارقة في كثير من مناحيها وبما يخص الصحافة والإعلام أكثر تساهلاً من استبداد الحكومات والأنظمة العربية بعد الاستقلال متمثلاً بشكل أساسي بالحكم الناصري ومخلفاته من أنظمة، بعيد الوحدة بدايةً.. فألغيت –على سبيل المثال- جريدة الأيام في سورية بتاريخ 13 آذار 1963 وكانت بدأت بالصدور عام 1931 لأصحابها: هاشم الأتاسي، إبراهيم هنانو، لطفي الحفار، عارف النكدي، سعد الله الجابري، فخري البارودي.
القبول بمعناه المباشر تحقق بشكل نسبي وهو ما لم يكن يرى فيه الكواكبي وأصحاب التجارب الأخرى في زمنه سوى الخطوة الأولى. إلا أن "النجاح" المذكور آنفاً يكمن في التمكن من إحداث التأخير المتواصل، وتحقيق عدم القدرة على المواكبة وعدم تمكين الصحافة والإعلام بشكل عام، مع دخول وسائله الجديدة مراحل الطفرات التكنولوجية المتعاقبة، من تحقيق الأهداف الأسمى، العليا (بعبارة أخرى) الوطنية الثقافية الحداثية، مع إعاقة انتشار الصحف وازدهار "المهنة" في الأوساط الأكثر اتساعاً على مساحة الوطن، ما أدى إلى إحساس دائم لدى المواطن بالغربة عن مفهوم الصحافة والصحف، ثم الجفاء المقنع المميِّز للعلاقة بين المواطن والوسائل الإعلامية الأخرى الأكثر تطوراً (والمحتكرة من قبل الدولة أو التابعة لها)، والتي كانت ولا تزال مجرد أبواق تجهر بصوت السلطة القمعية فاقدة الشرعية غالباً.. ذلك أن ما سعى الاستبداد العثماني لجعل الصحافة ترسو عليه، أي أن تصبح وظيفية بحتة، اللسان الناطق باسم السلطة: تبليغ قرارات الباب العالي، الأخبار المتعلقة بالسلطان والولاة، أخبار الحرب والسلم.. إعلان البيانات…. إلخ, هو ما بقيت عليه الصحافة والإعلام "الوطني" في الجوهر حتى يومنا هذا… ولم يكن ذلك ولم يستمر إلا باستمرار الاستبداد عينه واستمرار العلاقة المشار إليها آنفاً التي كانت شغل السلطات الشاغل في ترسيخ وحماية القيم "الممانعة" للتقدم والتنوير الموجودة أصلاً في البنية الثقافية التقليدية وفق معادلة: منع الصحافة من إيصال التنوير إلى الناس وفي نفس الوقت منع الناس من الوصول إلى الألفة معها ومعرفة ما تعنيه الصحافة (أو الإعلام بأشكاله الأخرى) كوافد ظل حتى الآن رغم "قدمه" غريباً عندنا لا نعرف بالضبط ما الذي يفعله بيننا!! الاستبداد أخّر وأعاق تلك العملية "الطبيعية" التي تبدأ بالممانعة وتنتهي بالتعرف إلى "الغريب" وهضمه والإفادة منه، كما "ثبّت" المجتمع (أو هذا ما كان يبدو للعيان) على حاله، على قيم ما قبل الدولة، ومنها على صعيد بنية المجتمع "النفسية" ثقافة النظام الأبوي/العائلي الذي وجد خير تمثيل له في شكل النظام الاستبدادي -على مستوى الدولة- ما عرِفْنا وعايشْنا. ولم يكن تحييد دور الشباب في النشاط الإعلامي و"ثقافة الشباب" إلا نتيجة من نتائجه وفي نفس الوقت سبب من أسباب ديمومته. فكيف كان وتم اختراق تلك الحلقة الجهنمية مع انتشار الوسائل الأكثر تطوراً مع بدء الألفية الثالثة؟!
لقد لعبت –تحديداً- تلك الوسائل الأكثر تطوراً الدور الأبرز في كسر الحلقة… مع ما رافقها في العشرين سنة الأخيرة من تغير في طبيعة العالم بأسره على مستوى شكل الاقتصاد العالمي أولاً، وما تبعه من تغير في القيم الاجتماعية في كل أمة واختراق قيم جديدة "متفق" عليها بما يشبه عملية اصطفاء طبيعي؛ للحدود لتصبح مقبولة (أو أكثر قابلية) من قِبَل الإنسانية جمعاء.. حيث أنه من نتائج كل ذلك أن أصبح هناك إعلام مخترق للحدود أيضاً، بدأ قبل انتشار شبكات الإنترنيت عندنا بوجود محطات البث الفضائية. ومن تلك اللحظة نستطيع أن نجزم بأن أنظمة الاستبداد العربية وقعت في أول مآزقها التاريخية الممهدة للحالة الراهنة التي نعيشها اليوم. وما المواجهات الكاريكاتورية التي شهدناها مؤخراً بين أنظمة "بجيوشها الجرارة" وبين محطات فضائية إعلامية إلا تعبيراً عن "غلٍّ" وحقد ورعب عاشته الأنظمة في السنوات الماضية وكأن هذه المحطات هي ما كانت تحفر تحت أركان العروش ببطء؛ وكأن الأنظمة هي أول من تنبّه لخطورتها بسبب حساسية الأنظمة التاريخية تجاهها، تجسد ذلك مثلاً باستعدادات "القذافي" المسبقة والمحمومة للتشويش على قناة "الجزيرة".
والحاصل أن الوافد الجديد المتمثل هذه المرة بالمحطة الفضائية بدلاً من "الصحيفة".. وربما في فترةٍ: "الجزيرة" بدلاً من "الشهباء".. والذي أحدث صدمة على المستوى الاجتماعي والسياسي لا تقل عن الصدمة التي أحدثتها صحف نهاية القرن التاسع عشر… هذا الوافد المتمثل بالفضائيات أولاً، تُرك له بحكم حتمية التطور التكنولوجي –التي هي من ضمن حتمية التطور التاريخية لزمن العولمة- أن يقابل الناس وجهاً لوجه مع ضعف حيلة الاستبداد في فرض قيوده على ما هو موجود خارج مجاله، وحدود سيطرته، لتبدأ عملية التعرف البطيء والهضم الذي "نور" الناس بطرق حياة "مختلفة" (على الأقل) وإن كان شكل هذا التلاقح سطحياً واستهلاكياً في كثير من مناحيه.. أصبح هناك مصادر أخرى "للمعرفة" وأشكال أخرى، بعيداً عن المناهج المدرسية والمنابر الإعلامية التابعة مباشرة لسلطة الدولة الاستبدادية القاصرة والموجهة والمجحفة بحق جيل جديد بدا أن الاستبداد طبعه بطابعه وصبغه بلونه.. وسقطت بالتدريج ادعاءات السلطات (كما ادعاءات الآباء/الأجيال السابقة، على مستوى الحياة المعاشة) حول الوقاية من الثقافات الدخيلة وادعاءات حماية الخصوصية.
هذا مهد ولا ريب لتلقف الشرائح الواسعة من الشباب العربي وبشكل صحي "معقول" للمكتسبات و"القيم" التي قدمتها شبكة الانترنيت لاحقاً عندما انتشر استخدامها وتوسع مطاولاً غالبية الشرائح الاجتماعية.. مع ارتباط هذه التقنية الجديدة بالنشاط الاقتصادي التجاري والصناعي في الدول العربية وإن كان بنسب متفاوتة.. فمن الحتمي أيضاً أن تكون الفئات الشابة على وجه الخصوص هي الشرائح الأكثر تعاملاً واحتكاكاً مع التقنية الجديدة، وصولاً إلى الفيس بوك وقد أخذ هذا في أحد جوانبه شكلاً إعلامياً على درجة عالية من الحرية والفردانية، ومن جهتهم تعامل معه شباب الثورات العربية "كأداة" مرنة تحقق غايات واضحة و"مصلحة" مباشرة من جوانب أخرى، كما لم يتوقع أحد.
لقد شق الشباب اليوم عصا الطاعة وانبثقت أنواع أخرى للإعلام البديل وإن كان لا أشكال جاهزة ولا بُنى منجزة لها بعد (وهو ما يتماشى ويتوافق مع الحالة الاجتماعية الجديدة المنتظرة التي ستبني مؤسساتها من جديد، بناء طرق وعقليات إدارتها) كَسَرَتْ الحلقة الإعلامية الاستبدادية كما أدت المعرفة الجديدة إلى تجاوُز قيم اجتماعية قوامها الرضوخ والخنوع على مستوى حياة الشباب… مبتعدين أكثر فأكثر عن سلطة "الأب" التقليدية… ومجافين (إعلاميين وغير إعلاميين) للأطر البيروقراطية للعمل الإعلامي البالي الذي نشهد تهاويه اليوم تحت ضربات كاميرات "الموبايل" التي لم تفهم قوى التعسف بعد أن لا سلطة لها عليها بعد اليوم.
المصدر : مجلة نادي الاعلام العدد الرابع