مدخل إلى حرية التعبير
مرت البشرية بمراحل طويلة حتى أصبحت حرية الرأي والتعبير – الحاضن الرئيسي لحرية الإعلام – إرثا إنسانيا راسخا غير خاضع للمساومة اختلفت درجاتها بحسب اختلاف تركيبة المجتمعات وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية وتطورها السياسي. تجلت أولى إرهاصاته الدستورية الحديثة في وثيقة ” الماغنا كارتا ” ( ميثاق العهد الأعظم ) في بريطانيا عام 1215 والتي تقّيم حقوق وواجبات الملك وأتباعه من رجال الإقطاع وترسم حدودها وانعكاسها على حقوق المواطنين والتي تطورت لاحقا إلى لائحة الحقوق في بريطانيا عام1688 والتي ارست مبدأ منع مساءلة اومحاكمة عضو البرلمان عن اي قول خارج البرلمان. وأسهمت كتابات العديد من المفكرين في تطوير مفهوم حرية الرأي و التعبير مثل جون لوك و جون استيوارت ميل واندريه شيدنيوس الذي قال: ( ان افضل طريقة لمعرفة الحقيقة هي التبادل الحر للآراء وان السبب الوحيد لمنع ذلك هو الخوف من ظهور الحقيقة ) انعكست هذه الاسهامات الفكرية على المنظومة الاعلامية لتعلن عن ولادة السلطة الجديدة القادمة التي عبر عنها اللورد ادموند يورك المتوفى عام 1797 حين قال: ( في مجلس العموم البريطاني تتواجد سلطات ثلاث ولكن عندما ينظر الإنسان إلى مقاعد الصحفيين يجد السلطة الرابعة). و شكل الإعلان الفرنسي لحقوق المواطنة عام 1789 نقلة نوعية على الصعيد الفكري حيث نص على أن (حرية التعبير هي من الحريات الأساسية للإنسان) وبذلك نقلها من حيز الحقوق المكتسبة إلى حيز الحقوق الأصلية التي توجد مع وجود الإنسان وتشكل جزءا لا يتجزأ من كيانه ولا يجوز الانتقاص منها بأي حال من الأحوال. ومع إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945 وضعت الأسس الأخلاقية و القانونية للالتزام بحرية التعبير على الصعيد الدولي والتي أثرت في معظم دساتير الدول الأعضاء فقد جاء في قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة في أول اجتماع لها بتاريخ 14121946 .
– ( إن حرية المعلومات هي حق أساسي للإنسان و حجر الزاوية لجميع الحريات الأساسية التي تنادي بها الأمم المتحدة القرار 59 د-أ) وصولا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 10121948 و الذي جاء في المادة 19 منه :
( لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية).
وكما أن حرية الرأي والتعبير إرثا إنسانيا كلف البشرية قرونا من النضال و الثورات إلا أن محاولة السيطرة عليها أيضا ظاهرة عالمية تتعدد انواعها و اشكالها بحسب نوع وشكل النظم السياسية و البنى الاجتماعية و الاقتصادية و قد تنبهت السلطة الدينية باكرا لخطورة الإعلام فقامت الكنيسة بتحريم اختراع الطباعة الذي أنجزه يوحنا غوتنبرغ في عام 1452 و لعنته ولم تعد الكنيسة الاعتبار لغوتنبرغ حتى عام 1995, ولم يجد عمرو بن العاص أي سبب يمنعه من إحراق مكتبة الإسكندرية عندما فتح مصر بعد حصوله على مباركة السلطة الدينية لهذه الخطوة .
ان حق التعبير عن الرأي بحرية كاملة خالية من أي قيود أو ضغوط هو حق أساسي من حقوق الإنسان الفرد لا يعلو عليه إلا حق الحياة. وهو حق في ذاته بصرف النظر عما إذا كان الرأي الذي يتم التعبير عنه صحيحا أو خاطئا، مقبولا أو مكروها من أغلبية أو أقلية، أو من سلطة أو حكومة. وهو حق مجرد من اعتبارات الظروف المحيطة به مثل اعتبارات الزمان والمكان. ولا يجوز تقييد حق التعبير عن الرأي بحال من الأحوال إلا فيما يتجاوز التعبير عن الرأي إلى تهديد حق الحياة لفرد أو أفراد آخرين. ومن ثم فإن التحريض على العنف والقتل لا يدخل في باب حرية التعبير عن الرأي لأنه قد يؤدي إلى قتل نفس بريئة، أي قد يؤدي إلى إزهاق حق الحياة لأفراد آخرين وهو حق يعلو على حق التعبير عن الرأي. وحق التعبير عن الرأي هو في جوهره حق الاتصال والمعرفة. اتصال الفرد بغيره من الأفراد واتصاله بالجماعة التي ينتمي إليها وبالجماعات الأخرى المجاورة أو البعيدة. ويكون حق الاتصال والمعرفة بالتعبير الشفاهي أو المكتوب أو بالرسم أو بالتمثيل. وقد تطور حق التعبير عن الرأي داخل المجتعات وفيما بينها تطورا كبيرا بسبب تطور التكنولوجيا منذ اهتدى الإنسان إلى عناصر اللغة ومكوناتها. فمن اختراع حروف الكتابة إلى تطور تكنولوجيا الكتابة وصناعة الورق والطباعة والنشر والتوزيع إلى تطور تكنولوجيا الاتصال السمعي والبصري وأخيرا إلى تطور تكنولوجيا الاتصال والبث الفضائي عبر الأقمار الصناعية وعبر شبكة الإنترنيت، وجاء اعلان اليونسكو لعام 1978 ليعزز حرية التعبير و ذلك من خلال اسهام وسائل الاعلام في دعم السلام العالمي و التفاهم الدولي و تعزيز حقوق الانسان ومكافحة العنصرية و الفصل العنصري و التحريض على الحرب .
تطورت أدوات ممارسة حرية التعبير عن الرأي تطورا ثوريا في كل عصر من العصور. ويتصل حق التعبير عن الرأي مباشرة بعملية تطوير الوعي الفردي والجمعي، أي تطوير الوعي بالذات وتطوير الهوية للفرد وللجماعة. فثورات المعرفة في كل عصر من العصور لم تكن لتأخذ مداها بدون حرية التعبير عن الرأي. وسواء نظرنا إلى عصور النهضة في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث، فإن تراكم المعرفة كان يرتبط في كل منها بازدهار حرية التعبير عن الرأي. كذلك فإن التطورات السياسية الكبرى في تاريخ العالم كانت في جوهرها تعبيرا عن انقلاب في الوعي بسبب تراكم المعرفة أي بزيادة حرية التعبير وحركة الاتصال فيما بين الأفراد والجماعات. وقد أدى الاستبداد المعرفي وقمع حرية التعبير عن الرأي إلى تدهور إنجازات وتراجع الحضارة والانحطاط إلى حلول عصور الظلام والجهل وانتشار الفساد واختلال القيم وتدني قيمة الإنسان الفرد إلى أدنى درجة.
ومع تطور معايير حرية الصحافة و إدراك المجتمعات الديمقراطية ضرورة استقلال الإعلام عن سيطرة الدولة ظهرت اتجاهات فكرية عديدة بهذا الخصوص، عبّر التعديل الدستوري الأمريكي الأول في عام 1791 عن أقسى درجات استقلال الإعلام عن الدولة حيث حرم التعديل الدستوري واجتهادات المحكمة العليا على الحكومة امتلاك أو المساهمة بأي وسيلة إعلام داخل حدود الولايات المتحدة أو فرض أي نوع من الرقابة على الصحف أو إعاقة وصولها إلى المعلومات و جاء فيه ” إن الكونغرس سوف لن يصدر أي قانون يحد من حرية الرأي أو من حرية الصحافة ” .
وقام الاتجاه الأوروبي على اعتبار الإعلام خدمة عامة حيث ينظر إلى الصحافة على أنها صحافة رقابة شعبية بمعنى أنها تراقب الحكومة و السلطة بشكل عام لحساب الجمهور العام استنادا إلى الاعتقاد بأن مراقبة الحكومة هي الوظيفة أو الدور الأساسي للصحافة الذي يفوق كل وظائفها الأخرى في الأهمية وبناء على هذا الدور شرعت قوانين تكفل عدم تدخل الحكومة سياسيا أو ماليا في الصحافة على اعتبار أن هذا التدخل سيؤثر على وظيفة المراقبة . و اعتبر الاستقلال المالي أحد الاركان الضامنة لعدم تدخل الحكومة حيث يدفع المواطن ضريبة مباشرة تعود حصيلتها إلى وسائل الإعلام العامة التي يشرف عليها مجلس وطني للإعلام منتخب و مستقل عن الحكومة – التي لا يوجد فيها وزارة إعلام – يقوم بتعيين مدراء وسائل الإعلام العامة و الإشراف عليها كما في بريطانيا و فرنسا وألمانيا .
أما في النظم الاشتراكية الشمولية فقد نظر إلى الصحافة على أساس أنها أداة للتوجيه و التعبئة والدعاية الإيديولوجية وانتفى بذلك مفهوم الصحافة المستقلة أو صحافة المعارضة وتم الاجهاز على الصحافة المستقلة من خلال حظرها بالقانون حيث اعتبر ان الصحافة المستقلة و المعارضة تقع ضمن جرائم خيانة الثورة وجزء من الثورة المضادة لسيطرة الطبقة العاملة و بناء عليه فقد حرم الدستور الفدرالي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الصادر في عام 1936 المعارضة ونقد الدولة السوفيتية وقصر حرية الصحافة على الدولة و طبقتها العاملة وحدد مهمة الصحافة في تأييد الحكم الاشتراكي .
مما لا شك فيه أن أوضاع الصحافة قد تحسنت بعض الشيء في معظم بلدان العالم العربي خلال السنوات الـ10 الأخيرة. إذ ازداد عدد الحكومات التي سمحت بتأسيس مؤسسات إعلامية محلية خاصة أو مستقلة. كما أنه أصبح من الصعب على أجهزة الرقابة وقف تسرب الأخبار و المعلومات التي تصدر عن القنوات التلفزيونية الفضائية، و التي تنشر عبر شبكة الإنترنت. كذلك دفعت الضغوط المحلية والدولية بعض البلدان إلى التخفيف من القوانين القمعية للصحافة والسماح بمزيد من حرية التعبير لأصوات المعارضة. لكن حينما يتعلق الأمر بالتغطية الصحافية للقضايا المحلية الأكثر أهمية و خصوصا السياسية منها والتي تمس النظام الحاكم، يظل الصحافيون مقيدون بشدة من قبل حكوماتهم. ولم ينشأ عن الضجة الأخيرة حول الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي أي تحسن ملموس للصحافيين الذين يحاولون تغطية القضايا الحساسة.
يؤمن قطاع وسائل الإعلام المستقل اليوم التدفق الحر للمعلومات الحيوية لأي مجتمع ديمقراطي حيث انه من المستحيل تحقيق الحد الأقصى من الاستقرار السياسي والنمّو الاقتصادي والديمقراطية بدون تدفق المعلومات بحرية. فالمعلومات تُشكّل القوة. وإذا ما كان لدولة ما أن تتمتع بالتفوق السياسي والاقتصادي الذي تمكنها سيادة القانون من إحرازها، فمن الضروري اذا أن تبقي مؤسساتها القوية مفتوحة أمام مراقبة الشعب الدقيقة لها مما يمكّن الصحافة الحرة من ممارسة الأدوار الخمسة الأساسية التي تلعبها و هي :
1. إخضاع المسؤولين الحكوميين لمساءلة ومحاسبة الشعب.
2. نشر القضايا التي هناك حاجة للالتفات إليها والاهتمام بها.
3. تثقيف المواطنين ليتمكنوا من اتخاذ قرارات مستنيرة وصناعة الرأي العام.
4. إقامة تواصل بين المواطنين في المجتمع المدني والتعريف بالثقافات الوطنية.
5. اعادة انتاج الموروث الثقافي ونشر القيم الانسانية الحضارية في المجتمعات.
لتحميل التقرير نسخة PDF
نص التقرير