صحيفة “القدس العربي”: يارا بدر
استيقظ جيل جاكييه، ومارس تفاصيل صباحه اليومي كالمعتاد، وربما باستثناء بسيطٍ. تخيله يوماً كالأيام الأخرى من حياته، وقد قضى قسماً كبيراً منها في العمل الصحافي الميداني، ولأنّ ليس لي خبرة بالعمل الصحافي الميداني فلا أستطيع القول إن كان الخوف والقلق مما يمكن أن يقع في هذا اليوم أمرين يعتادهما الصحافي بعد سنين، أم يبقيان متجددين في كل يوم. لكن هذا الأربعاء كان اليوم الأخير في حياة جيل جاكييه، الذي قضى في قصف قذيفة ‘هاون’ ضربت البناء الذي لجأ إليه ليحتمي من قنابل سقطت حيث كان مع وفدٍ إعلامي مؤلف من 15 إعلامياً ومصوّراً وافقت السلطات السورية على دخولهم أراضيها.
في حمص، في منطقة ‘الزهراء – حي عكرمة’ توقفت كاميرا جيل جاكييه (المولود سنة 1968) بعد أكثر من عشرين عاماً قضاها في العمل الصحافي. وبعد أن جالت هذه الكاميرا وغطّت الأحداث في أكثر مناطق العالم سخونة واضطراباً من كوسوفو إلى أفغانستان وفلسطين والجزائر وجنوب أفريقيا وحتى العراق، في حمص توقفت الكاميرا وانتهت رحلة جاكييه أثناء تغطيته لمسيرة مؤيدة للرئيس السوري بشار الأسد، في إطار إعداده ريبورتاجاً لبرنامج ‘المبعوث الخاص’ الذي يبث منذ سنوات على الشبكة الفرنسية الثانية. تخطّى جاكييه عتبة الموت أكثر من مرّة، في تلك المناطق التي شهدت نزاعاتٍ من أكثر نزاعات التاريخ دموية، لكنه التقاه في حمص، ليكون بهذا أوّل شهيدٍ صحافي محترف يسقط في الثورة السورية منذ اندلاعها قبل عشرة أشهر، وأوّل صحافي غربي يسقط أثناء تأديته عمله في تغطية الثورة السورية.
في بيانٍ صدر عن ‘المركز السوري للإعلام وحرية التعبير’ بتاريخ تمّ توثيق أربع حالات وفاة، لصحافيين اثنين ومواطنيين اثنين، فما الذي يُميّز جاكييه أكثر من كونه صحافيا أجنبيا سقط على أرضنا السورية.
– سليمان صالح أبا زيد: ناشط على الانترنت من محافظة درعا، حيث كان أحد مديري صفحة ‘أحرار حوران’ على موقع التواصل الاجتماعي ‘الفيسبوك’، توفي بتاريخ 22/07/2011 إثر إصابته في الرأس.
– فرزات جربان: مواطن صحافي،عُرِفَ بتصوير المظاهرات في حمص، وتحميلها على مواقع الانترنت. اعتقلته قوات الأمن السوري/ أجهزة المخابرات الجوية في حمص يوم 19-11-2011 وهو بصحة جيدة، ثمّ وجدت جثته على الطريق العام في احد الايام وكانت عيناه قد اقتلعتا.
– باسل السيد: مواطن صحافي،عُرِفَ بتصوير المظاهرات في حمص، وتحميلها على مواقع الانترنت.
– ‘شكري أبو برغل’ صحافي سوري يعمل مع صحيفة ‘الثورة’ الرسمية السورية منذ العام 1980، توفي يوم 8/01/2012 إثر إصابته بطلق ناري يوم الجمعة 30/12/2011، وقد أصابه الطلق أثناء وقوفه أمام نافذة منزله في منطقة داريا- ريف دمشق.
إنّ مقتل جيل جاكييه هو مقتل صحافي ليس طرفاً في قضية النزاع، بل أثناء عمله في محاولة تغطية هذا النزاع، ونقله إلى العالم، كي لا يكون قضيةً منسية أو مهجورة في بقعةٍ صغيرة من الأرض. هو مقتل شخص اختار أن يكون من يُخبر القصة من تلك الأماكن التي لا يرغب الكثيرون فيها بأن يعلم العالم ما هي القصة. لم ينسحب جاكييه إلى مقالات الرأي، ولم يكن في منزله، لم تكن قضيته الكرامة في سورية ولم يكن أهله وأصدقاء طفولته من يتظاهرون حتى يصوّرهم ويحمّل قصتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كان جاكييه صحافيّاً ميدانياً محايداً، كما كان بإمكانه أن يكون، والتزامه الذي قاده من فرنسا إلى حمص هو التزامه بجوهر العمل الصحافي، بإخبار العالم قصة ما يجري في الأماكن المهجورة.
إنّ أهم ما توفّر من اتفاقيات تنص ببنود صريحة على حماية الصحافيين كان قرار مجلس الأمن رقم 1738 لعام 2006، الداعي إلى ضرورة اعتبار الصحافيين أشخاصاً مدنيين يجب احترامهم وحمايتهم في مناطق النزاع المسلح. وهو القرار الموافق لمجموعة اتفاقيات ومعاهدات دوليّة أخرى أكدّت على ضرورة حماية الصحافيين في حال النزاع المُسلّح، حيث أشار القرار إلى اتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949 بشأن معاملة أسرى الحرب، والبروتوكولين الإضافيين المؤرخين في 8 حزيران/ يونيو 1977، وبخاصّة المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأوّل المُتعلّق بحماية الصحافيين العاملين في بعثات مهنية محفوفة بالمخاطر في مناطق النزاع المُسلّح، ولكن الصحافيين هم أكثر من مدنيين، وهم من في اختيارهم الذهاب إلى أماكن النزاع المُسلّح يُدركون جيداً إمكانية فقدانهم لحياتهم وهم يخبرون القصة، وفي البلدان الديكتاتورية قد يفقد الصحافي حياته لأنه حاول إخبار القصة التي تدور في سكون تلك الديكتاتوريات وإن لم تشهد البلد نزاعاً مسلحاً.
كما لا توجد أي اتفاقية تختص بحماية الصحافيين، وتميّزهم إيجابياً،لا يوجد كذلك في دستورنا السوري ما يحمي الصحافي أثناء تأديّة عمله، أو ما يضمن له حقه في ممارسة عمله من الأساس. ففي تقرير آخر للمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ذُكِرَ أنّ (59) صحافيّاً تعرّضوا للاعتقال منذ شهر آذار/مارس 2011 وحتى بداية شهر كانون الثاني/يناير 2012، وأنّ (4) صحافيين ممّن اعتقلوا قد تعرّضوا للتعذيب، بالإضافة إلى (12) صحافيا ومدوّنا وناشطا على الانترنت قد تعرّضوا للضرب أثناء عملية اعتقالهم.
يوم 11/01/2012 قتل جيل جاكييه في قصف استهدف أحد أحياء مدينة حمص، وأصيب صحافي بلجيكي ينس فرانسين ومصوّر هولندي ستيفن فاسونار، وآخرون لم تعرف أسماؤهم بعد. تمّت إضافة أسمائهم إلى قوائم ضحايا استهداف حريّة الصحافة والتعبير في سورية، ولم يُعرف بعد القصة الفعلية لمّا جرى. فهناك الكثير من المواطنين الصحافيين،وأصحاب مقالات الرأي، كهذا المقال، لكن هناك القليل، والقليل جداً من الصحافيين المهنيين.
شكراً جيل جاكييه.. ووداعاً. على أمل أن نغدو نحن أشباه الصحافيين أكثر شجاعةً وأكثر إصراراً وأكثر مهنيّةً، على الأمل بأن يغدو للصحافي ذات يوم تشريع يضمن له بعض التميّز الإيجابي، فهو أكثر من مجرّد مدني، هو شخص اختار أن يكون حيث يهاجر الكثيرون.