15 آذار 2011 الرقم الصعب في عام 2011, حيث غيّر هذا التاريخ منظومات بأكملها من آليّات التعاطي الحكومي مع واقع المواطن السوري, الأمر الذي شمّل بالضرورة الواقع الإعلامي. حتى أنّ الحديث عن الثورة السورية التي انطلقت من هذا التاريخ لم ينفصل في أي يوم عن الواقع الإعلامي الذي فرض نفسه بقوة شديدة, على ضوء منع السلطات السورية لوسائل الإعلام من الدخول والتنقل بحرية في الأراضي السورية, وعليه برزت الأفلام التي يصوّرها المتظاهرون كخطاب إعلامي بديل أثار بدوره الكثير من النقاش والتحليل, الذي استطال ليشمل الحديث عن المنظومة الإعلامية في سوريا وآلياتها لرسمية, وكما ظهر الإعلام البديل كعنوان أساسي لعام 2011 حاولت الحكومة السورية القيام ببعض التعديلات, التي أتت وللأسف شكلانية لا تمس الجوهر وإشكالاته.
أبرز التعديلات الحكومية بدأ حقيقةً قبل اندلاع شرارة التظاهرات السورية, ففي تاريخ 8/2/2011 رفعت الحكومة السورية الحجب الذي مارسته لسنوات عن مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر شهرةً مثل FACEBOOK” و”TWITTER”, علماً أنّ هذين الموقعين وإجمالي الوسائط الإلكترونية شكلوا مُحفزاً رئيسيّاً للثورة في كل من تونس ومصر بل وأحد أهم منافذ اشتعالها. الأمر الذي قرأه البعض كبادرة خيّرة من قبل السلطات السورية, في حين رأى آخرون أنّ فتح هذين الموقعين سيمكّن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطات السورية من مراقبة كافة المستخدمين ومتابعة صفحاتهم ونشاطاتهم بسهولة أكبر ممّا لو استمر المستخدمون السوريون لهذه المواقع في دخولها عبر برامج كسر الحجب “البروكسي”.
في واقع الأمر شكّلت هذه المواقع البديل الفعلي والأوّل في مواجهة الخطاب الإعلامي الرسمي الذي انتهجته السلطات عقب اندلاع المظاهرات, حيث جنّد هذا الإعلام كل وسائله لبث خطاب المقولة الواحدة, مع اعتماد سياسة التخوين ولغة الفضائح وعدم احترام عقلية المتلقي, وعليه كان الإعلام السوري طرفاً في الأزمة السورية وليس ناقلاً لها. الأمر الذي قاد إلى أن يوسم هذا الإعلام بالضعيف, والمُفتقِد إلى المصداقية والموضوعية في نقل الخبر وتغطية الأحداث. إلاّ أنّ الإعلام السوري لا يعترف بمأزقه المهني والأخلاقي حين أصبح النهج الدعائي سمته الواضحة، خاصة عندما تحولت وظيفة هذا الإعلام إلى تفنيد ما تأتي به الفضائيات الأخرى بدلاً من تقديم لغة مختلفة أساسها الحقائق, حيث حاول في البداية إنكار الحدث لكن بعد أن أصبح الحراك حقيقة لا يمكن إنكارها اضطر هذا الإعلام إلى الاعتراف بوجودها لكن مع التقليل من شأنها والتشكيك في مصداقيتها مع ربط الحدث دائماً بالمؤامرة الخارجية. وقد استخدم الإعلام السوري في خطابه إلى الشارع السوري والعربي مفردات تحريضية, قسمّت الشارع السوري إلى “مواطنين شرفاء”, و”مواطنين مندسين” حيناً و”خونة” حيناً آخر, و”عملاء” وصولاً إلى “السلفيين. لا بل استخدم أسوء أنواع الخطاب حين وصَمَ المحتجين بأنهم ليسوا أكثر من أدوات خارجية خائنة مع دعوات تحريضية لقتلهم وسحلهم.
إنّ هذا التاريخ الذي أشعل بأحداثه النار في الرماد الإعلامي السوري الجامد فرض علينا تقسيم الوضع الإعلامي الذي عرفته سوريا خلال الفترة الممتدة من 3/5/2010 وحتى 3/5/2011 إلى ما قبل الثورة السورية التي اندلعت شرارتها من مدينة “درعا” في الجنوب السوري وإلى ما بعد الثورة.
إذ ما قبل هذا التاريخ الذي حُدد بشكلٍ نسبي بيوم 15/3/2011, استمرت الحياة الإعلامية في سوريا تواصل خرقها للمواثيق والعهود الدولية التي أقرتها الشرائع الدولية, والتي تمثّلت بانتهاك السلطات السورية لحرّية الرأي من خلال ممارسات التضيّيق المستمرة على الإعلام والإعلاميين, وحجب العديد من المطبوعات السورية, بالإضافة إلى منع توزيع أعداد كثيرة من المطبوعات العربية في السوق السورية. دون اغفال الأعداد الهائلة من المواقع الإلكترونية المحجوبة والمدوّنات وشبكات التواصل الاجتماعي.
وقد تفاقم الوضع الرقابي والتضيّق اليومي على الإعلاميين في سورية عقب الأحداث الأخيرة التي عاشها الشارع السوري, فمَنَعَتْ بعض الصحف الخاصة مثل جريدة “بلدنا” اليومية, موظفيها من مغادرة مكاتبها في أيام الجمعة, كما أشارت إليهم بوقف المواضيع التي تنتقد بعض تفاصيل الواقع السوري مثل سوء الخدمات العامة أو أزمة المواصلات العامة, ورفض النقد أياً كان, لصالح التأكيد على التعاطي الإيجابي مع كافّة المواضيع.
تميّز الوضع السوري في تحوّل حراكه الاجتماعي إلى حرب إعلامية علنيّة ومباشرة بين الخطاب الإعلامي السوري الرسمي, وبين ما اعتبره هذا الإعلام إعلاماً مضاداً ومُغرضاً, وذلك في ظل تضييّق أمني شديد على الإعلام في مختلف أشكاله المقروءة والمسموعة تحديداً, ممّا نحى بالصراع حول “المعلومة” إلى الساحات البصرية للإعلام. وفي هذا الصدد صرّحت د. “بثينة شعبان” مستشارة الرئيس السوري للشؤون السياسية والإعلامية في مؤتمرها الصحفي بتاريخ 24/03/2011. أنّه (وبما أنّ الأحداث تجري في سوريا, فإنّ التلفزيون السوري هو الوحيد الذي ينقل الحقيقة, وليس أي شخص آخر)، وعليه منعت السلطات السورية الإعلاميين من دخول المناطق الساخنة, كما قامت بطرد العديد من الإعلاميين من الأراضي السورية, ليبقى المجال الوحيد أمام وكالات الأنباء والفضائيات الإخبارية لتقديم وجهة نظر مختلفة عن مفردات الخطاب السوري الإعلامي الرسمي حول الوضع في سوريا هو مقاطع الفيديو التي يبثّها نشطاء سوريون على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومع تحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن تكون المنفذ الإعلامي الوحيد لتقديم صور ما يجري في الشارع السوري, عبر الفيديوهات المصوّرة بكاميرات أجهزة المحمول, بدأ التضيّق على مستخدمي هذه المواقع كما على إمكانية الوصول إليها, ووصل الأمر أحياناً إلى عزل بعض المناطق السورية بشكل كامل عن خدمات شركتي الاتصال الوحيدتين في سوريا, بالإضافة إلى قطع خدمات الانترنيت بشكل كامل عن هذه المناطق.
ما بين خطاب الصور المباشرة عمّا يحدث والتي تستعين بها معظم المنابر الإعلامية ورقية كانت أم بصريّة أم إذاعية, وما بين الخطاب الرسمي المتمثّل في مثلث قوامه قناة “الدنيا” السورية الخاصة المملوكة لمجموعة من رجال الأعمال السوريين والتي شكّلت الوجه الآخر, للتلفزيون الرسمي السوري ثاني أضلاع هذا المثلث, دون أن نغفل عن “الإخبارية السورية” الضلع الثالث والأخير, وهي القناة الحكومية التي ركزت شعاراتها على (الأحداث كما حدثت, والوقائع كما وقعت). ما بين هذين الخطابين وجد الشارع السوري والعربي نفسه صاحب القرار, وربما للمرّة الأولى, في اختيار الخطاب الذي يميل إليه: خطاب يقول هذا ما حدث, وآخر, هو خطاب الإعلام السوري, يقول أنّ الإعلام غير السوري إعلام ينشر معلومات مُغرِضة, و”المواطن الشريف” يستمع إلى الإعلام السوري فقط, في محاولة لتخوين أي قرار فردي وإطلاق الحكم مُسبقاً على أي رأي شعبي.
علماً أنّ أبرز ما قدمته هذه الثورة على المستوى الإعلامي أنها فتحت الباب وعلى مصراعيه لكشف عيوب الإعلام السوري, وإثارة النقاش حول الإعلام والمعلومة والمهنية ومفاهيم أخرى غابت طويلاً عن الساحة السورية.
لتحميل التقرير بشكل كامل يرجى الضغط على الرابط التالي
أدناه يمكن قراءة النسخة الكاملة من التقرير