وسيم ابراهيم
«هل فقط الأموات في هذا البلد يمكنهم التصريح بأسمائهم؟» تسأل الصحافية كأنها أدركت للتو خلاصة جولتها. كان أحدهم قادها إلى حديقة تضم أشجارا صغيرة وترابا، وقال ان فيها دفنوا تسعة شهداء. يقول انه لا يستطيع قول اسمه. ولا شيء أمام الكاميرا غير التراب المقلوب، وأيد تأتي بقطع كرتون لتضعها أمام عين الكاميرا، كتب عليها بخط اليد اسم الشهيد وتاريخ مقتله.
لم تصور تلك المشاهد بكاميرا هاتف جوال. كانت كاميرا تلفزيونية تتنقل متخفية، وتسجل شهادات من بؤر الاحتجاج السورية. من دمشق إلى الرستن، ثم حماه وحمص.
خاضت الصحافية الفرنسية صوفيا عمارة، في أوائل آب، تلك المغامرة الخطيرة، وخرجت بفيلم هو حتى الآن من أهم الوثائق التي خرجت من سوريا، الممنوعة على وسائل الإعلام الأجنبية. فيلم عنوانه الفرنسي: «سوريا في جحيم القمع»، وصلت مدته قرابة الساعة، وعرضته قناة «آر تي» الفرنسية الألمانية، قبل أن تتهافت عليه تلفزيونات أوروبية أخرى، ويلقى انتشارا واسعا بين نشطاء الشبكة الالكترونية.
علقت دهشة الصحافية بالمشهد الذي تنقله الكاميرا. لكن هناك غير الأموات يصرحون بأسمائهم، كما تكتشف الصحافية بعد لحظات. إنها امرأة تفترش الأرض، وتقول إنها تنام فوق قبر ابنها منذ دفنه قبل عشرة أيام. امرأة متشحة بالسواد، تسألها صوفيا إذا كانت تريد أن تغطي وجهها حرصا على حياتها. الاقتراح ترفضه السيدة التي تتمدد فوق قبر ابنها، وابنها الآخر مفقود، وتقول بحزم :«دعيهم يروه (وجهها)، لست خائفة حتى لو جاؤوا وقطعوني حتت». الفراغ في ملامحها الزائغة تزيده كلماتها :«لو كان حـــيا ونأكل التراب من الفقر، هذا أفضل من رؤيته تحت التراب… لقد ربيتهم وهم يتامى ثلاثين عاما، والآن في ثوان يأخذونهم».
دخلت الصحافية المتخفية حماه، وسألت عن كل ما يروج له الإعلام الرسمي السوري. تجوال الصحافية كان بالتنسيق من نشطاء التنسيقيات، الذين أمنوا لها التنقل والحركة، وقادوها إلى حيث أردات تسجيل وثيقتها، وساعدها اتقانها للعربية في إظهار حرارة التواصل المباشر. وضعت صوفيا أمام ناشطي تنسيقية حماه اتهامات النظام بأن من يقود التحركات هم «سلفيون وارهابيون». يتفحصون أمامها فيديوهات صوروها، ويسألونها «هذا جيش، وهذا شبيحة، أين الإرهابيون؟». يقولون للصحافية انهم يجلسون معها الآن، وهم أكثر من ثلاثين شخصا يشاركون يوميا في التظاهر، ليعقب أحدهم: «لا يوجد بيننا شخص واحد يصوم أو يصلي». يؤكدون أنهم لن يستجيبوا لمحاولة النظام جرهم إلى استخدام السلاح، ويقول أحدهم جازما :«هذا من سابع المستحيلات، نحن لا نريد أن يحدث عندنا ما حدث في ليبيا والعراق».
ورغم تخفي الصحافية والكاميرا خاصتها، وتنقلها الحذر، إلا أن إحكام الوثيقة لم يغب عنها. في أكثر من مشهد كان المتحدث مجموعة، وهو ما جعلنا نقف أمام شهادة «جماعية». هذا ما حصل أيضا في الرستن، حيث قابـــلت الكاميرا نشـــطاء هنــاك، وتسربت في عتم اللــيل لتقابل الضــباط المنشقين.
وقفت الكاميرا شاهدة على قصة تتطور كل لحظة، قبل يوم قتل ضابط منشق، وهي تقابل والدته، وبعد يوم من لقاء الضباط في مخـــبئهم تخبرنا راوية الفيلم أن الجيش شن هجوما باحثا عنهـــم، واعتـقل أحــدهم ولم يُسمع عنــه شيء من حينها.
اللافت والفارق في ما نقلته صوفيا عمارة أنها لم تكتف بالخرق الذي حققته. لقد دخلت حماه وغيرها في وقت كانت هذه الأماكن عصية على كل إعلام، لكنها بنت فاعليتها الخاصة داخل هذا الخرق. صارت توسعه، وتعمقه، ورأينا صحافيا لم يصب بالهلع رغم خطورة الظرف الاستثنائية. كان يفكر ويبني روايته، ويقتفي أثر كل ما يضيف لمشاهد كاميرته. كل ما يرويه النظام السوري وإعلامه كان محط اختبار ووضع على محك الشهادات. الصورة كوثيقة بدت أيضا مشغولة بتأكيد عبـــورها في الأماكن، وتتذكر مشاهد الفيديوهات التي نقلها الناشطون، لتقول: ها نحن نمر بنفس الأمـــاكن. وثيقة تصادق على وثيقة، وتضيف لها. ســـاحة الرستن كانت مليئة بالمتظاهرين، وهنـــاك كانت كاميرا التلفزيون ترصد كيف يتم نقل المشـــهد مباشرة، عبر كاميرا الفيديو، ليــبث على الفضائيات. كاميرا تقف شاهدة على ما تفعله أخرى.
[ أعادت عرضته «آر تي» اليوم الخميس فجرا، وستعيد عرضه أيضا في 27 الجاري في الحادية عشرة وعشر دقائق قبل الظهر.
وسيم ابراهيم