القارب الذي أغرق عمدًا…(قصة عائلة لم تصل)

03/12/2025

القارب الذي أغرق عمدًا…
(قصة عائلة لم تصل)

ساعات طويلة مضت دون خبر عن عائلتي.

لم أستطع النوم، ولا الأكل، ولا التفكير بشيء سوى القارب الذي أقلّهم إلى المجهول.

من اتصالٍ لآخر، ومن مجموعة أخبار إلى أخرى، كنت أعيش بين خوفٍ خانق وأملٍ هشّ أحاول أن أُقنع به نفسي: ربما وصلوا إلى الشاطئ الإيطالي ولم يجدوا وسيلة للتواصل.

لكن ذلك الأمل سرعان ما تلاشى عندما جاء الخبر الذي أنهى كل ظنون الانتظار: القارب الذي أبحروا على متنه… غرق.

منذ تلك اللحظة بدأت رحلتي الطويلة في البحث عن الحقيقة – عن أمي، وأخي، وأختي.

أمي هناء، امرأة حنطية البشرة، بنية العينين، تحمل شامة صغيرة على طرف أنفها، وابتسامة تشبه البيت الآمن في وسط الفوضى.

أخي غيث، طالب هندسة زراعية، شاب هادئ، طيب، أسمر البشرة، طويل القامة، لا يحمل أي علامة مميزة سوى أحلامه الكبيرة.

وأختي سوسن، طالبة صيدلة، خجولة لكن قوية، تحمل أثر حرق صغير على ساقها اليمنى — علامة طفولتها التي كنا نضحك عليها دائمًا.

في السادس من أيلول/سبتمبر 2014، قرر ثلاثتهم مغادرة مصر بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة فيها.

ركبوا قاربًا كبيرًا من مدينة دمياط متجهين إلى أوروبا، على متنه نحو 450 شخصًا من السوريين والفلسطينيين والمصريين.

مكثوا يومين في المياه الإقليمية المصرية، ثم انقطع الاتصال بهم في التاسع من الشهر ذاته.

ومنذ تلك اللحظة، بدأ الصمت.

حاولت التواصل مع خفر السواحل الإيطالي مرات عديدة، لكن بلا جدوى.

وفي 11 أيلول، سمعنا أن ناجيين اثنين فقط تم إنقاذهما.

رويا أن القارب ضُرب عمدًا من قبل سفينة أخرى تابعة لأحد المهربين، بعد أن رفض الركاب الانتقال إلى قارب أصغر لا يتسع لأعدادهم.

لاحقًا، انتشرت تقارير تقول إن 11 شخصًا فقط نجوا من أصل 450، بينما انتُشلت ثماني جثث مجهولة الهوية.

أصدرت منظمة الهجرة الدولية حينها تقريراً حمل خفر السواحل الإيطالي واليوناني والمالطي مسؤولية التقاعس عن إنقاذ الأرواح — لكن ذلك لم يعِد إلينا شيئاً.

منذ ذلك اليوم لم أعد كما كنت.

أعيش اليوم في ألمانيا، أتنقل بين العمل والدراسة، لكن ذهني عالق هناك…

في تلك الليلة، في ذلك البحر الذي لم يردّ لي أحدًا

كلما رأيت البحر، رأيت فيه وجوههم:

أمي بابتسامتها التي كانت تطمئنني مهما اشتدّ الخوف،

غيث بعينيه اللتين كانتا تحملان شغف الحياة،

وسوسن التي كانت تحلم أن تفتتح صيدليتها في أوروبا.

رحلوا جميعًا بحثًا عن الأمان،

لكن البحر ابتلع أحلامهم وصمت عن الحقيقة.

ما زلت أبحث — عن إجابة، عن أثر، عن جثة، عن صوت.

أحيانًا أقول إنهم رحلوا،

وأحيانًا أصدق أنهم ما زالوا هناك،

عالقين بين الموج… ينتظرون أن نصل إليهم.

هذه القصة حقيقية ومبنية على شهادة موثّقة من قبل “مشروع توثيق الانتهاكات” في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.

هذا النشاط يأتي في إطار مشروع “دعم عائلات السوريين المفقودين على طرق الهجرة في حقهم في معرفة الحقيقة” المموّل من مؤسسة الأصفري.