الثقافة وعبثية الرقابة
صحيفة “القدس العربي”: الياس خوري
نستطيع ان نهجو الرقابة كما نشــــاء، من دون ان نســــتطيع وضع حد لها، او ايقافها، او حتى التأثير على قرارات السيد الرقيب الذي يبدو واضح الغموض، من حيث انه يمثّل سلطة تتحصّن بقيم سياسية واجتماعية تدّعي انها تحمي المجتمع من الثقافة، وتحمي المثقفين من غضب الأعراف والتقاليد سواء أكانت اجتماعية او دينية.
نهجو الرقابة، وننسى ان الرقيب منذ اوائل القرن الماضي وحتى اليوم، لعب دورا خاصا بل اكاد ان اقول متميزا، في رسم خط بياني للثقافة الجديدة والحية في العالم العربي. يكفي ان نستعيد اسماء طه حسين وعلي عبدالرازق ونجيب محفوظ وصادق العظم ونصر حامد ابوزيد وليلى بعلبكي، يكفي ان نتذكر ‘قوقعة’ مصطفى خليفة، وصرخة فرج بيرقدار ضد عتمة السجن، ومعاناة صنع الله ابراهيم ومعه جيل الستينات المصري، ومسرحية ‘الاغتصاب’ لسعدالله ونوس باخراج جواد الأسدي، و’حديقة الحواس’ لعبده وازن، وافلام مارون بغدادي ودانيال عربيد والى آخره… كي نكتشف ان الرقابة رسمت من دون ان تدري خط الطليعة الثقافية العربية، وكانت مقياسا للجديد والمختلف والرؤيوي.
لعبة الرقابة في بلادنا حملت سمات الواقع السياسي العربي، فمرة هي رقابة للدفاع عن الايمان والدين، ومرة اخرى هي سيف المستبد الذي اعلن نفسه كاتباً مثلما فعل صدام حسين ومعمر القذافي، ومرة ثالثة كانت صوت الحزب الواحد من اجل ترهيب الثقافة، ومرة رابعة كانت شكلا لاعلان المسافة بين المثقف والجمهور.
الرجل الذي طعن نجيب محفوظ لم يقرأ ‘اولاد حارتنا’، لكنه نفذ الفتوى في كبير الروائيين العرب، كما ان استعادة قانون الحسبة، لم يكن يهدف سوى الى اخراس الصوت العقلاني لنصر حامد ابو زيد، اما عزلة العراقي الكبير هادي العلوي، فكانت اعلانا بأن المستبد لا يريد ان يرى سوى صورته في مرايا الكلمات.
لا تريد الرقابة سوى شيء واحد، هو فصل الثقافة عن المجتمع. فالتصّحر الأخلاقي الذي عاشته العرب في العقود التي اعقبت الهزيمة الحزيرانية، لم يكن ممكنا من دون تصحّر ثقافي شامل. في هذه الصحراء الأخلاقية والسياسية، ارتفع صوت بعض المثقفين والكتاب والفنانين بالتحدي. وكان ثمن الدفاع عن الوجود في مواجهة التصحّر غاليا جدا. سجون واقبية ومناف ومقابر. واليوم فقط، مع هذا الانفجار الكبير الذي اعلنته الثورات العربية، نكتشف ان الصمود الاسطوري في السجون والمعتقلات لم يذهب اهداراً، وان الحرية التي تعيد وصل الثقافة بالمجتمع استطاعت ان تكسر جدران السجن العربي وان تفتح افقا جديدا مليئا بالاحتمالات.
هذا الأفق الجديد هو الرد على الخيانات الثقافية التي احتلت حيزا كبيرا من المستوى الثقافي العربي في زمن الاستبداد. لم يكن زمن الاستبداد ليستمر هذه الفترة الطويلة، وتصل به الوقاحة الى محاولة تأسيس جمهوريات وراثية لولا خيانات ثقافية كبرى كانت اشبه بالفضائح. من اكذوبة التنوير التي بررت التحالف مع الديكتاتور في مواجهة التيارات الاسلامية، الى جائزة القذافي العالمية، الى احتلال مدن الملح النفطية للثقافة عبر الرشوة.
جاءت الثورات العربية كالمفاجأة لتعلن نهاية ذلك الزمن، ولتقيم مصالحة كبرى بين ادب السجون وانتفاضة الميادين والساحات العربية. كانت الثورات انفجارات اجتماعية وثقافية كبرى، وهي اشبه بثورات السجناء وهم يكسرون قيودهم يأسا واملا. لذا لا اجد معادلا لهذا التوهج الاجتماعي الذي يصل الى ذروته اليوم في ثورة الشعب السوري المجيدة، سوى في ادب السجون، الذي تحوّل للأسف الى احد ابرز علامات ادبنا العربي المعاصر.
مفاجأة العرب بثوراتهم، تكاد ان تتحول اليوم الى مفاجأة بنتائجها المباشرة. فالذين رسموا الثورات في اذهانهم على شكل الانقلابات العسكرية التي هيمنت على الحياة العربية في العقـــود الماضية، سوف يصابون بخيبة امل. بل ان البعض يحوّل خيبة الأمل الى ما يشبه الدعوة المفتوحة للاحتماء بالمستبد خوفا من المجهول. وبذا تعود الثقافة الى فخها النخبوي الاستبدادي، وتنسى ان مهمتها الأساسية هي الدفاع عن الانسان ووصل ما انقطع من علاقة الثقافة بالمجتمع.
هنا يأتي المثقف الديكتاتور ليصير رديــــفا للضابط الديكـــــتاتور، هذه العلاقة بين الضابط والمثقــــف، التي وسمت زمـــن البعث والقذافية بمختلف تنويعاتهما، كانت الكارثة التي فرضت التصحر الثقافي، وقامت باحداث قطيعة بين الثقافة والمجتمع، عبر تدميرهما معا.
الرسالة الكبرى التي اعلنتها الثورات العربية، من الجسد التونسي المحترق، الى اطفال درعا، الى العربات العسكرية التي داست الاجساد في ميدان التحرير، هي رسالة العلاقة بين الثقافة والمجتمع والتي تقول ان حرية الثقافة هي جزء من حرية المجتمع مثلما ان حرية المجتمع هي جزء من حرية الثقافة.
هاتان الحريتان اُعلنتا باشكال متعددة، لا سلطة لرقابة عليـــها. من وسائل التواصل الاجتماعي الى الرسوم على حــــيطان المدن، ومن استعادة احمد فؤاد نجم والشيخ امــــام، الى شـــــعر محمود درويش الذي صار اليوم احد علامات التحدي في المسار التغييري العربي.
لا مكان للرقابة بعد اليوم، هذا ما يفترضه منطق المسار التغييري الذي يعيشه العالم العربي. لكن بين المنطق والواقع مسافة كبرى يجب قطعها، وهي ما اريد ان اطلق عليه اسم مسافة الشجاعة.
ليس صحيحا ان الثورة انتصرت، فالثورة مسار بل مسارات معقدة، وانتصارها لا يمكن ان يتم اذا توقفت امام الحائط الخليجي النفطي الذي اقفلته الدبابات في البحرين.
هذا المسار يحتاج الى الشجاعة والتواضع في آن معاً.
شجاعة من يتعلم الدرس من الشعب الأعزل الذي واجه ويواجه الرصاص بالحناجر والصدور. يجب ان تسقط كل الممنوعات، وتكون الحرية معادلا للعدالة الاجتماعية، وقيمة عليا تعيد تأسيس القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وتواضع من يعرف ان المعرفة والثقافة يجب ان تكونا طريقا للحرية والتحرر، وان المثقف الذي يواجه الرقابة والعسف يفعل ذلك خدمة للحقيقة.
وفي النهاية، حين نتطلع الى احتمالات الثورات العربية ومستقبلها، نرى فلسطين في الأفق، ليس بوصفها جزءا من قضية حرية المشرق العربي وتحرره فقط، بل بوصفها مقياسا اخلاقيا للعدالة في عالمنا اليوم.
انتصرت الثقافة على الرقابة، هذا ما يشير اليه تاريخ ثقافتنا العربية الحديثة، لكن هذا الانتصار لن يتحول الى قيمة اخلاقية لا تمس الا حين ينجح العالم العربي في تأسيس الديموقراطية التي تنهي ازمنة الخوف والقمع والتقوقع والعنصرية والطائفية والتعصب وتؤسس لولادة المواطن الحر في وطن حر.
القيت هذه الكلمة في افتتاح مؤتمر ‘الحريات الثقافية في المشرق العربي’، الذي نظّمه مركز ‘سكايز’ في بيروت،