ثائر العكل
الإعلام والوصاية:
"الشباب والهجرة من منظور حقوق الإنسان" .. كان هذا عنوان ملتقى جامعة الدول العربية للشباب الذي عقد في العام 2009 م في مدينة أصيلة في المغرب . بحث المؤتمر يومها مخاطر هجرة الشباب العربي وتداعيات هذه الهجرة ليس على العالم العربي ومجتمعاته، بل على أوروبا والواقع المعيشي فيها . وقد نمى إلى كواليس المؤتمِرين والمتابعين أن المؤتمر يبحث حماية أوروبا من مخاطر الهجرة، بدلاً من أن يبحث إيقاف نزيف المجتمع العربي لعقوله وخاماته المهاجرة، وقد عزز هذه النظرة تفاصيل عضوية تؤكد الميل الأوروبي للمؤتمر، كمكان انعقاده في مدينة أصيلة المغربية، حيث يعد المغرب أكبر بلد عربي مصدر للشباب المهاجر إلى أوروبا.
إن جامعة الدول العربية التي تأسست عام 1945م شأنها شأن كل الأحزاب العربية خصصت حيزاً تنظيمياً يُعنى بشؤون الشباب، فمعظم الأحزاب العربية أنشأت اتحادات للشباب والطلبة والكشاف العربي، في محاولة من هذه الأحزاب المهترئة أن تُضفي طابعاً تقدمياً تجددياً على مسارها السياسي والاجتماعي ، ولأن هذه الأحزاب أمسكت بالقطاعات الفاعلة في بنيان المجتمعات التي وجدت فيها، كقطاع الإعلام، فقد سعت إلى نقل تجربتها التنظيمية إلى القطاع الإعلامي العامل في البلد الذي تعيش فيه.
وهنا بدأت المؤتمرات والمنتديات والملتقيات المتهافتة التي تناقش دور الشباب وضرورة توعيته وتوجيهه، في محاولة لممارسة دور الوصي الموجِّه لشرائح الشباب، هذا ما قامت به جامعة الدول العربية في مؤتمر أصيلة على سبيل المثال، فقد أرادت الجامعة توعية الشباب بمخاطر الهجرة إلى أوروبا من المنطلق الأوروبي، بدلاً من البحث في سبل منع الهجرة على نحو استباقي من خلال تحسين الأوضاع العربية الرديئة الباعثة إلى الهجرة من الأقطار العربية.
إن هذه المؤتمرات والندوات شكلت حلقات إعلامية هادفة إلى بلورة عملية الوصاية الشبابية. كل القوى التنظيمية الفاعلة في العالم العربي ركزت على أهمية دور الشباب، وحثت تلك القوى مكناتها الإعلامية لإنشاء حيثيات إعلامية تسعى إلى توجيه الشباب وتوعيتهم من خلال خلق ما يسمى بالإعلام الشبابي، والذي يناط به أن يتناول قضايا الشباب من منظور تلك التنظيمات المؤسسية. وفي ظل عملية الوصاية المفترضة, غابت الأسئلة الأهم والأكثر تأثيراً التي يجب على أصحاب تلك المؤسسات أن يطرحوها قبل انعقاد ندواتهم ومؤتمراتهم: من هم الشباب الذين يجب أن يمارس عليهم ذلك الدور التوجيهي الإعلامي؟ ما هو مفهوم القطاع الإعلامي الشاب؟ هل يكون الشاب هو من ينتمي لفئة عمرية شابة بين ال 20 – 40 عاماً مثلاً؟ هل قطاع الشباب هو القطاع الذي يناقش ويتناول قضايا الشباب مهما كانت الفئة العمرية للعاملين فيه؟ هل الشباب مصطلح يطلق على أصحاب الفكر المتجدد والديناميكي والحيوي بمعزل عن التوجه والفئة العمرية؟ عشرات وعشرات الأسئلة التي تحدد البوصلة بدقة، وتنتج مفهوماً واضحاً لمقاربة حركة التوعية ونطاق الإعلام الشاب. يبدو للوهلة الأولى أن الأمر شائك، ولكن الفحص الدقيق يثبت أن الجامع بين كل هذا هو النظرة إلى الإعلام الشاب من خلال الفكر الشبابي المتجدد.
إن القطاع الإعلامي يعتمد الذهن والعقل كمادة أساسية لتكوين بنيته، فهو بهذا يُغيب شباب الجسد ويُعنى بشباب العقل. إن الإعلامي على خلاف الرياضي عداء المسافات الطويلة أو راقص الباليه لا يحتاج جسداً شاباً بقدر ما يحتاج عقلاً منفتحاً شاباً. وهنا يكون مفهوم التقادم لديه مفهوماً شخصياً، فالصحفي أو الإعلامي الشاب قد يصبح كهلاً وهو في سن العشرين نتيجة تحجر عقله وانسداد أفقه، وقد يبقى شاباً حتى عقده الثامن بسبب نظرته الديناميكية لكل التفاصيل التي يتطرق إليها في محيط عمله، وهنا يدخل القائمون على الإعلام في أشكلة جديدة قوامها قانون الإعلام الواجب ولادته لقوننة العمل الإعلامي.
إن قانون الإعلام مهما كان شكله وبنيته هو أمر معيق للعمل الإعلامي، وهو مادة يتحول اتجاهها بمجرد ولادتها من الرغبة في ضبط العمل الإعلامي إلى الرغبة في تقييد حرية العمل الإعلامي. والسؤال هنا ما هي الحاجة إلى قانون ينظم عمل الإعلام؟
الرؤية الشابة للعمل الإعلامي تفترض التجديد والتطوير الدائم، وهذا لا يمكن أن يكون مع وجود الضوابط القانونية، فالتجدد المتسارع للعمل الإعلامي الإلكتروني يتعارض مع القوننة القديمة للإعلام، فمع وجود مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك واليوتيوب والتويتر, هذه المواقع المتطورة والمتجددة بشكل دائم, يغدو من الصعب جداً لأي قانون إعلامي أن يواكبها، حيث يحرص القائمون على تلك المواقع على إضافة خيارات الكترونية تطويرية لها وبشكل دوري بما يتيح مشاركة أكبر وأكثر فاعلية لمستخدميها، وهنا تبدو عملية صياغة القوانين عاجزة أمام هذا التطور المتسارع، فأي قانون إعلامي يحتاج وقتاً طويلاً في صياغته وأعداده، ومن ثم يمر بفترة مخاض لتفعيل ممارسته وفهمه، وهنا يكون التجديد المتسارع للإعلام الالكتروني قد سبقه. هذا من جهة ومن جهة أخرى يتعارض قانون الإعلام مع مبدأ التطوير والتجديد، فأي قانون من حيث المبدأ يستند أساساً إلى تشريعات وضعية قديمة كتشريع حمورابي والتشريع الديني وتشريعات نابليون بونابرت وغيرها .. وبالتالي هو يستند إلى تشريعات موغلة في القدم، فكيف يمكن لقانون يستند إلى تلك التشريعات القديمة أن يطلق على نفسه صفة العصري والمتجدد.
على خلاف قانون الإعلام المتخصص, لا يفترض بالقانون العام الذي يحكم شؤون الناس العامة أن يكون معصرناً، ولكن يفترض به أن يكون عادلاً وافياً وشاملاً لكل ما يلزم الإنسان من تشريعات وضوابط، وبالتالي بوجود القوانين الأساسية لعمل الدولة، كقانون العقوبات العام، والقانون المدني، وقانون أصول المحاكمات الجزائية، لا يبدو لنا من حاجة لإيجاد أي قانون يختص فقط بالشأن الإعلامي، فكل تجريم ينتج عن العمل الإعلامي كالقدح والذم والتشهير والاعتداء وغير ذلك موجود في نصوص واضحة وصريحة ضمن مواد القوانين العامة، وهذا أمر كافٍ, ف "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" كما جاء في القرآن الكريم.
الإعلام والعصرنة:
استندت نظرية الإعلام لدى ولادتها إلى مبدأ التلقي الشاقولي، بمعنى أن هناك ثمة مُرسل ومرسَل إليه، مصدِّر ومتلقي، ولو أخذنا الصحافة الورقية مثلاً، لوجدنا أنه لدينا صحفي يكتب مقالة، ولدينا قارئ لهذه المقالة، مرسل ومرسل إليه، هذا العماد الأساس للنظرية الإعلامية. ولكن ومع تطور وسائل الإعلام وانبثاق ثورة التقانة تغيرت المعادلة، لتصبح نظرية الإعلام تعتمد على النظرية الدائرية، فالكل مرسل والكل مرسل إليه، والكل مصدِّر والكل متلقي، ذلك أصبح متاحاً تماماً مع التنوع الإعلامي المتلاحق، كما أن مسألة هامة أضافها هذا التطور الإعلامي, وهي عملية التغذية الراجعة، فمع الإعلام الالكتروني أصبح بإمكان الإعلامي أو الصحفي ممارسة دور المرسل من خلال كتابته مقالاً ينشر في موقع الكتروني ما، وأصبح القارئ لهذه المقالة هو المتلقي، ثم وعلى نحو فوري يتحول القارئ إلى مرسل مع توفر خاصية التعليق على المقالة التي تتيحها المواقع الالكترونية، بالتالي يتحول كاتب المقال إلى متلقي للتعليقات ويتحول القراء إلى مرسلين، وهكذا وفق هذا تحولت نظرية الإعلام لتصبح نظرية دائرية بدلاً من كونها شاقولية.
إن كل الإحصاءات والدراسات تؤكد أن مستخدمي شبكة الانترنت العنكبوتية هم من فئة الشباب على المستوى العمري وعلى المستوى الذهني، فشبكة الانترنيت حديثة الولادة هي شبكة تتطلب من مستخدمها الأولي الرغبة والإرادة لتعلم مداخلها وأزقتها، وتتطلب منه المهارة العالية المكتسبة من خلال استخدامها لتجاوز كل العقبات الموجودة فيها، وتلك الخاصيتان تتوفران عند الشباب، شباب العقل والعمر.
إن الآلية الإعلامية الدائرية التي تتيحها المواقع الالكترونية تجعل من العاملين في الحقل الإعلامي ممارسون للعبة الطرابيش العثمانية، فالطربوش المتداول يحدد موقع الشخص، تارة يرتدي الشخص طربوش الصحفي الكاتب، وتارة يرتدي هو نفسه طربوش القارئ، وتارة يرتدي طربوش الناشر وغير هذا.. ولعبة الطرابيش هذه تجعل من الساحة الإعلامية العصرية ونعني إعلام التقانة والانترنت، ساحة مشرعة أمام الجميع، مما يكسبها مساحة للتنويع والتطوير الإعلامي من جهة، ومساحة للفوضى الإعلامية من جهة ثانية ولنا في هذا أمثلة عديدة.
في رمضان العام 2011 أنتجت مؤسسة فراس إبراهيم للإنتاج الفني في سورية سلسلة تلفزيونية تتناول سيرة وحياة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وقد انبرى الفنان السوري فراس إبراهيم لتجسيد شخصية الشاعر درويش، فيما تصدى المخرج السوري نجدت أنزور لإخراج العمل .
قبل الشروع بتصوير العمل وبمجرد إعلان الفنان إبراهيم في صيف العام 2010 م عن نيته بإنتاج هذا العمل، شن محبو الراحل درويش حملة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي تويتر وفيس بوك لرفض العمل وللتعبير عن سخطهم من هذه النية، كانت هذه حملة شبابية عشوائية وغير منظمة لا تقودها مؤسسة إعلامية محترفة كما جرت العادة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي, في حملات الانتخابات السياسية والنقابية المقامة في دول الغرب، حملة مقاطعة العمل الفيسبوكية الشبابية اضطرت الفنان فراس إبراهيم أن يطل عبر وسائل الإعلام ليرد على تلك الحملة، ويبشر المشاهدين بمسلسلٍ ناجح يتناول حياة الراحل بكثير من التفاصيل الهامة ومزيد من السوية الفنية العالية. هدأت الحملة قليلاً بحجة الانتظار حتى موسم العرض. مع قدوم رمضان ال 2011 وعرض العمل، كثر حديث النقاد والمتابعين عن سوية العمل المنخفضة، مما جعل المؤسسة الرسمية للراحل محمود درويش تتبرأ منه، وأتبع هذا أقاويل عن تبرئ المؤلف الموسيقي مارسيل خليفة من العمل أيضاً، ومن ثم أطل قياديو منظمة التحرير الفلسطينية ممن عاصروا درويش على شاشات الفضائيات للحديث عن تدني مستوى العمل وعدم مقاربته لشخصية الراحل. كان للحملة الإعلامية التي قادها الشباب الدور البارز في المواقف التي سبقت. وهنا مارس الإعلام الشبابي دوره الريادي في تصويب النتاج الثقافي المطروح. ولكن. ألا يمكن أن يكون لهذه الحملة دورها السلبي من حيث الإطار العام؟ بكل تأكيد بين ثنايا هذه الحملة خطر بارز يتسربل رويداً .. رويداً.
لقد طالبت حملة مقاطعو العمل عبر الفيس بوك وبعد اتهامه بتدني المستوى بإيقاف عرضه من الشاشات الفضائية فوراً, ومنعه من الظهور بحجة إساءته للشاعر الراحل، وهنا يكمن السؤال الرئيسي .. هل يحق لأي حملة إعلامية واسعة أن توقف عملاً إبداعياً مهما كانت سويته؟
إن هذه مسألة خطيرة لو نظرنا لها من وجوهها المختلفة ، لأنها تشرع باباً جديداً لا يمكن ضبطه، ماذا سيحصل لو قامت منظمات إسلامية متشددة على سبيل المثال بقيادة حملة فيسبوكية لمنع عرض عمل إبداعي يتناول شخصية من الشخصيات اليسارية مثلاً ؟.. ماذا لو قامت قوى أوروبية بحملة فيسبوكية لمنع عمل يقدم العرب بصورتهم البهية كأبناء للتسامح والخير؟.. إن هذا ما يمكن تسميته بالانتقال من ثقافة التطوير والإبداع إلى ثقافة الفوضى وربما الفوضى المضادة.
الأجدر بمن يطال عملاً ما أن ينتج عملاً مغايراً يوضح الصورة التي يراها هو، فلو كان ثمة مقالة قد خالفت رأي البعض فيمكن لهؤلاء أن يردوا عليها بمقالة تفند ما جاء في الأولى، ولو كان هناك لحناً هزيلاً لأغنية ما، يمكن لملحن آخر أن يقدم النموذج الأرقى للموسيقى المفترضة برأيه، وذات الأمر في كل مناحي الفن. رغم كل هذه المخاوف إلا أنه لا يمكن إغفال الدور الهام للثقافة الإعلامية المتطورة في تشريح ودراسة المنتوج الثقافي والفني المطروح على مختلف المستويات والقطاعات الفنية، ويبقى تراكم الوعي لدى منتسبي القطاع الإعلامي الشاب، والصقل اليومي لخبراتهم الإعلامية هو العامل الحاسم للانتقال الدائم والمرور السلس من ثقافة الفوضى أو فوضى الثقافة إلى إعلام ناضج محترف، يحدد أهدافه على نحو مباشر ويرتقي بها ليواكب التطور التقني المتسارع.
المصدر : مجلة نادي الاعلام العدد الرابع