فاديا أبوزيد
مجلة "نادي الإعلام"- العدد الثالث
مع دخول نابليون إلى مصر 1798 م دخلت إلينا الصحافة، كي تساهم في عصر النهضة العربية. فتشكلت العديد من الصحف كالأهرام (1875 م) في مصر، بتزامن مع تأسيسها في كل الدول العربية. وصدرت في سوريا وفي دمشق أول جريدة "سوريا" عام 1865, ثم تبعها العديد من الصحف في حلب، حمص، حماه، واللاذقية وصلت إلى أكثر من 300 جريدة ودورية؟! و ما يفضح تخلفنا عن ذلك الزمن ليس الرقم فقط، إنما رموزه. ومن بينهم صاحب المؤلف الثوري "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، المفكر عبد الرحمن الكواكبي ابن حلب الذي تلخص تجربته مع الصحافة خطورة وأهمية هذا المجال من الإعلام التنويري النهضوي. فقد عمل في جريدة "الفرات" سنتين وتركها بسبب الرقابة والاضطهاد لكونه لا يمدح السلطة العثمانية. فأنشأ صحيفته الخاصة "الشهباء" باسم صديقه "هشام العطار" كي يحصل على الموافقة، وكان عمره آنذاك 22عام إلا أنها أغلقت في عددها السادس عشر لجرأتها. تابع جهاده الصحفي فأصدر (عام 1879) باسم صديق آخر جريدة أل"اعتدال" سار فيها على نهج "الشهباء"، فعطّلتها السلطة أيضا، ليثبت جملته الشهيرة: الحكومات "تخاف من القلم خوفها من النار"، وهذا ما يثبته التاريخ يوما بعد آخر.
وفي حين نجحت ثورات أوروبا الفكرية في بناء دول المواطنة والحريات، أجهض حلم اليقظة العربية بالانقلابات العسكرية. بل ويذهب الكثير من المنظرين إلى أن ثورة يوليو التي قادها الضباط الأحرار عام 1952 للقضاء على الملكية في مصر أثر سلبا على تقدم البلد، حين ترافقت مشاريع جمال عبد الناصر التنموية مع مشاريع قمعية لحرية الرأي والتعبير. فلاحق الإخوان المسلمين والشيوعيين ومنع تراخيص الصحف، وأخضع الإعلام لسلطة الدولة بعد أن عزز وأطلق يد الأجهزة الأمنية ليس في مصر فحسب وإنما في سوريا، حين أورثها عبد الناصر كل أدواته في عهد الوحدة ( 1958-1961) بين البلدين، اللذين تقاسما كل هذه الظروف مع بقية البلدان العربية، كبيئة حمت الفساد واستنزفت الثروات وعطلت حركة المجتمع لما يقارب الثلاثة عقود. فتوقف الإعلام، وكبت دوره في معظم البلدان العربية، التي تنتفض اليوم بأدوات الدول المتحضرة من الليبرالية، والديمقراطية، وحرية التعبير، والبحث العلمي، وأخيرا ثورة الاتصالات، التي حررت الإعلام، وابتكرت إعلام المواطن المستقل..
من اللحاق بالخبر ..إلى صناعته!
نوع آخر من الإعلام كرسته ثورات الربيع العربي، بعد أن استخدمه المتظاهرون في إيران لمواجهة ديكتاتورية و قمع السلطات لهم. ليكتشف بعدها العالم في الثورات العربية أهمية و خطورة و تأثير وسائط الاتصال الحديثة في كسر هيمنة السلطة على الإعلام و ممارستها الاستبدادية على الشعب في حجب وقمع حرية الرأي.
ورغم ضمان دساتير وتشريعات تلك البلدان لحرية التعبير، إلا أن هذه الدساتير كفلت أيضا أن يتم تجاوز هذا الحق بقمعه و الحد من نشاطه تحت حجج عديدة منها: "زعزعة الأمن القومي" و"إضعاف هيبة الدولة" أو "إضعاف الشعور القومي" وغيرها من المسميات، التي لا يوجد لها تعريف محدد أو صورة واضحة يمكن الالتزام بها، حين لم تبتعد تلك المحظورات، والخطوط الحمر عن كونها أدواتٌ رسمية لحماية فساد السلطة، فحجبت مصادر المعلومات عن الصحفيين والإعلاميين، ومنعتهم من الانتقاد، سيما للحكومة.
ولم يخطر ببال الدول المتقدمة أنها ستصنع عدوها بنفسها من خلال ثورة الاتصالات. وما شكله موقع ويكيليس من خطر على الدول الغربية بشكل عام، وأميريكا بشكل خاص، هو أكبر دلالة على ذلك. وبعد أن أكد محمد حسنين هيكل أن الوثيقة تحتاج لعشرين سنة كي تظهر، يطلق ويكيليس اليوم وثائق تعود لأربع سنوات مضت، والعدد قابل للتقلص. مثلما لم يخيل لمنشئ الفيس بوك أن موقعه سيرتبط إلى الأبد بالثورات العربية، لدرجة أن مواطن مصري أطلق على ابنته اسم "فيس بوك". ذلك العالم الافتراضي الذي أصبح مقابلا، ونداَ، وخصما للعالم الواقعي، لا يعزى امتداده وتكاثره للتقنيات الحديثة فقط إنما لجهل و تخلف السلطات الحاكمة الديكتاتورية، التي تغولت في قهر مواطنيها، واستخفت بهم وبقدراتهم، وعقولهم، يظهر ذلك من قاموس النعوت التي وجهت للشعوب العربية من قبل رؤسائها و مسؤوليها، كوصفهم بالجرذان والفئران والجراثيم والتافهين وغيرها. و في الوقت الذي كان فيه "بن علي" و أجهزته الأمنية يتفننون بتعذيب وترهيب الشعب، كان الشباب على الفيس بوك وتويتر يبنون دولتهم وإعلامهم الحر الموازي الرافض، ليس على الصعيد السياسي فقط إنما على الصعيد الإبداعي، خاصة موسيقى "الراب"، التي استغلها الشباب لتكون نافذة للاحتجاج، كان من أكثرها تأثيراً وسخطاً أغنية قدمها الرابر "جينرال" بعنوان "سيادة الريس"، والذي انتقد فيها "زين العابدين بن علي" بشدة وبشكل مباشر وشخصي قبل أيام من قيام الثورة التونسية. ولا ننسى صفحة (ستوب فور أو فور- stop 404 ) على الفيسبوك، والتي حاربت النظام وتصدت لفساد "بن علي وعائلته" ودعت إلى اعتصامات وتظاهرات كثيرة ضده، قبل الثورة بأشهر، كما حدث في مصر التي تمتعت بحياة سياسية أكبر سيما بوجود أحزاب عريقة وغيرها جديدة تشكلت ونشطت قبل عشر سنوات إثر قرار حسني مبارك رفع سقف الرقابة وإنشاء الإعلام الخاص. فكان لكل حزب موقعه الإلكتروني، كموقع "كفاية" و"حركة 6 ابريل" وغيرها، بالإضافة إلى تجمعات الكترونية أسسها شباب كـ و"كلنا خالد سعيد" و"ائتلاف شباب الثورة" وغيرها، من التي برزت خلال الأحداث، ونزلت من الفيسبوك إلى الأرض، داعمةً حشد الملايين في ميدان التحرير.
تويتر.. إعلام الثورة السورية!
رغم تشارك كل الشعوب العربية بقائمة من أدوات التعتيم والقمع، إلا أن الواقع السوري يختلف عن غيره، حيث المشاركة السياسية ممنوعة منعا باتا، إلا من خلال أفراد يزجون بالسجن أو يتم نفيهم إلى الخارج، إداريا أو إجباريا. لذلك، دخلت الثورة السورية دون أية مساندة لوجيستية فكرية على الأرض. أما الإنترنيت ووسائل الاتصال الحديثة التي كانت لاعبا أساسيا في تونس ومصر، فلم تكن موجودة في سوريا، التي صنفت عالميا مع خمسة من الدول، كأسوأ خدمة انترنيت مقدمة. أما الفيس بوك و اليوتيوب و التويتر، فلم يتسن للشباب السوري استخدامه بحرية، إلا مع بدء الاحتجاجات في سورية، وبقرار من السلطة، في الوقت الذي بلغ تعداد الشباب التونسي المتواجد على الفيسبوك في نفس الوقت مليون واربعمئة مشترك!!
لم يقف الإختلاف عند وسائل الاتصال. فقد جيشت السلطة المحطات التلفزيونية الثلاث الموجودة لصالحها، وسبق أن أقفلت مكاتب فضائية الأورينت المعارضة. إلا أن التصرف الاستثنائي الذي قامت به، ولم يحصل في أي بلد عربي آخر، كان في منع دخول المحطات الفضائية لتغطية الأحداث. ومع أن الشعب السوري لم تتسن له الفرصة كي يتآلف مع الإنترنيت بسب سوء الخدمة. ورغم كل الحصار الذي فرض على الشارع السوري وغياب الفيس بوك، ومثقفي الفيس بوك، إلا أن سرعة التجاوب مع "تويتر" واستثماره بهذه الطريقة المذهلة، تحسب للشباب السوري، الذي يعتبر الممثل الوحيد عما يجري حقيقة في شارع الثورة. ملايين المقاطع التي انهمرت على محطات الإعلام والمواقع الإلكترونية التي حشدت التعاطف العالمي معها. وفي غياب الإعلام الرسمي وسطوته، استطاعت هذه المقاطع أن تكون وثيقة تقدم لمجلس الأمن والمنظمات الحقوقية العالمية، كإثبات على كل المجازر والخروقات والدماء التي تسيل من السوريين، التي أفرزت لاحقا حراكا على الفيسبوك، وهذه نقطة اختلاف أخرى، حين ألهم شارع الثورة الواقعية، شارع الفيس بوك، على عكس ما جرى في تونس ومصر..
هذه النقلة النوعية للإعلام حين أصبح صانعا في ظل ثورات الربيع العربي يوحي باقتراب انقلاب جذري في حالة هذا الإعلام الذي مر إلى اليوم بمرحلتين من أصل ثلاثة: مرحلة ما قبل الثورة، حين كان الإعلام والشعب بيد السلطة. ومرحلة الثورة، حين كان الشعب والسلطة بيد الإعلام، والتي ستمهد للمرحلة الثالثة الأهم التي لم تصل إليها الثورة التونسية والمصرية بعد، حين يصبح الإعلام والسلطة بيد الشعب.