الإخراس المنهجي: كيف تُعيد الشبكات الاجتماعية إنتاج القمع في سوريا؟

الإخراس المنهجي: كيف تُعيد الشبكات الاجتماعية إنتاج القمع في سوريا؟

25/11/2025

ليدا أبو زيدان – عزيز موسى

“كان الأمر أشبه بكابوس؛ تم تهديدي بالقتل، وتحوّلت حياتي إلى قلقٍ مستمرّ، انعدم  شعوري بالأمان  لدرجة أنّني أُصبت بحالة من الهلع والخوف وظهرت عليّ أعراض شلل نصفي بعد التهديدات التي وصلتني عبر وسائل التواصل الاجتماعي. بقيت لما يقارب الأسبوع لا أستطيع الخروج من المنزل مع عجز عن القيام بعملي، ولم أفعل شيئاً غير أنني صحفية”. بهذه الكلمات تلخّص سمر (اسم مستعار) حياتها في الأشهر الأخيرة. بدأ ذلك عندما قرّرت ترك عائلتها في شمال شرقي سوريا والتوجّه إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد للبحث عن فرصة عمل أفضل ومواكبة آخر التطورات في البلاد. “تقول سمر :”كانت المرحلة حسّاسة ولم يبدو واضحاً ما سيحدث، كما أنّ حالة الحرمان التي عانينا منها في تغطية الأحداث أيّام النظام السابق دفعتني للمغامرة. كانت فرصة لي، كصحفية كردية، لكي أوصل صوت الكُرد إلى مناطق مختلفة من البلاد”.

العنف الرقمي في سوريا.. النساء الأكثر تضرّراً

يُعتبر العنف الرقمي من أحدث أنواع العنف، والذي ترافق مع ظهور التكنولوجيا وانتشارها حول العالم، ويُعرّف بأنه استخدام التكنولوجيا والفضاء الالكتروني لإيذاء الآخرين أو تهديدهم أو ابتزازهم أو مراقبتهم بهدف السيطرة أو الإساءة. في عام 2024 أصدر فريق “سلامتك” دراسة بحثية حول العنف الرقمي الذي تيسّره التكنولوجيا وتأثيره على النساء في سوريا، وركّزت الدراسة على تجارب القياديّات في الفضاء العام وما ينتج عن ظهورهن من ردود أفعال. تُبيّن الدراسة أن ست نساء من بين كلّ عشر واجهن عنفاً رقمياً تسبّب بضرر كبير، فقد بلغت نسبة اللواتي تحدّثن عن ضرر أصاب حياتهنّ الشخصية  64% من النساء المستهدفات في الدراسة، فيما قاربت نسبة اللواتي يخشين أن يتحوّل هذا العنف إلى اعتداء جسدي 77%. كذلك خلُصت الدراسة إلى أنّ القياديّات يتعرّضن بشكل ممنهج لهذا النوع من العنف إذ أنّ 17% من القياديّات في سوريا قد تعرّضن لحملات تشهير ممنهجة على شبكة الإنترنت.

تعمل سمر كمراسلة حربيّة لقناة كردية، وهو ما جعل التركيز على قضايا الكُرد جزءاً أساسياً من عملها، بالإضافة للتغيّرات السياسية والدبلوماسية في المناطق السورية المختلفة، والتي بدأت تتسارع مع بداية العام الجاري، وبحكم اهتمامات القناة وعملها، كان ملف شمال شرق سوريا (قسد والإدارة الذاتية) في مقدّمة ما تعمل عليه وتغطيته (باللغة الكردية).

التأثير المخيف للعنف الرقمي

يُعدّ العنف الرقمي أحد أشكال انتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي، فبحسب تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية حول مخاطر هذا النوع من العنف وتأثيره على الأفراد، تشير المنظمة إلى أنّه يسبّب أضراراً نفسية  تتمثّل في اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق، كما يجبر هذا النوع من العنف المدافعين عن حقوق الإنسان إلى عزل أنفسهم على الانترنت، ومن الممكن أن يؤدّي  إلى أضرار اقتصادية حيث يقوم الأشخاص بالانسحاب وتقليل وجودهم في الفضاء الافتراضي ما يؤثّر على عملهم وإمكانية حصولهم على المعلومة، كما تشير دراسة “سلامتك” إلى أن العنف الرقمي قد يسبّب ضرراً دائماً بدرجات متفاوتة حسب نوع العنف وفداحته وشخصيّة الضحيّة والجاني، وبحسب الدراسة فإنّ 23% من النساء فكرن في إيذاء أنفسهن بعد التعرّض للعنف الرقمي.

تقول سمر: “بدأ بشكل مفاجئ التركيز على أيّ صورة أو منشور أو فيديو أشاركه على صفحتي الشخصية، ومن ثم تصبح متداولة بشكل كبير من قبل العديد من الأشخاص في أماكن مختلفة بقصد الانتقاد أو الإساءة”. وفقاً لمنظمة العفو الدولية فإن هذا السلوك مقصود بهدف إسكات الأصوات، خاصة عندما تمارسه الدول والحكومات، فالعنف الرقمي هنا يُستخدم لغرض إخافة الأشخاص وإجبارهم على الصمت، وهو ما يسمّيه الخبراء “التأثير المخيف” على حريّة التعبير وحقوق الإنسان والنشاط الصحفي والحقوقي على حدّ سواء.

تقاطع القمع

تعتبر سمر أن السبب الرئيس في الهجوم الذي تعرّضت له هو هويّتها، فبحكم عملها في التغطيات الصحفية كانت تتواجد في المؤتمرات والفعاليات المختلفة والمؤسسات الرسمية، ما خلق تساؤلاً وحالة من المهاجمة المستمرّة عن سبب تواجدها في هذه الأماكن، وتتابع موضحةً: “بدأت حملة التحريض عليّ عبر منصات التواصل الاجتماعي وأُطلقت دعوات لاعتقالي، فضلاً عن تهديدي بالقتل مع تحذيري بأنني مراقبة. استمرّت الحملة عليّ لأكثر من أسبوع وتم الاتصال بعائلتي وإخبارهم بأنني قد قُتلت”.

الهويّات المختلفة تلعب دوراً أساسياً في العنف الرقمي، بحسب  تقرير الأمم المتحدة وصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) والذي تم إنجازه بالشراكة مع ACAPS تحت عنوان “العنف القائم على النوع الاجتماعي الميسّر بالتكنولوجيا في شمال غرب سوريا”. يشير التقرير إلى أن الهويّة الجندرية تؤثّر على زيادة هذا النوع من العنف، كما تُعتبر الهويّات الأخرى عوامل مهمّة، حيث يحدث تداخل بين الهويّة والوضع الاجتماعي والانتماء والعنف الرقمي.

ما تعرّضت له سمر من هجوم يخضع لتقاطع عدة أسباب، تتمثّل في أنّها امرأة بالدرجة الأولى، وانتمائها لهويّة مختلفة، بالإضافة لمهنتها كصحفية. تقول: “الفئة التي استهدفتني كانت من المسلحين، بالإضافة لشخصيات مؤثّرة ما سبّب هجوماً كثيفاً.. كان عدد المنشورات صادماً بالنسبة لي”. لم يكن الهجوم على سمر عفويّاً بل كان منسّقاً وممنهجاً إذ تمّ جمع صورها خلال أربعة عشر عاماً من عملها الصحفي من قبل أشخاص لهم معرفة سابقة بها وبعملها، وبحسب سمر  تم نشر صورها الخاصّة بطريقة منظمة لتبرير الهجوم عليها ودعمه، واتهامها بما ليس له أساس من الصحة. 

تؤكّد سمر أنّ الهجوم كان بسبب مهنتها وهويّتها فقط، وقد وصل إلى حدّ تهديد حياتها في الواقع، فإلى جانب إهانتها والاعتداء عليها لفظياً، تمّ تكسير سيارتها وأخذ هويّتها الصحفية ورخصة القيادة الخاصّة بها، “كنت أقوم بنقل أغراضي من منزل لآخر وكان فيها كلّ أغراضي”، تضيف سمر.

الأمر لا يقتصر فقط على النساء الصحفيات والناشطات، بل يشمل أيضاً الرجال. يقول الكاتب الصحفي والناشط السياسي إسماعيل ديّوب إنّه عانى من العنف الرقمي على خلفية نشره لآرائه حول بعض المواضيع التي تتعلق بالعدالة الانتقالية وتوجيه النقد لمسائل سياسية محددة على منصات التواصل الاجتماعي، وتمثّل ذلك في إطلاق التهديدات وتوجيه خطاب كراهية عبر “فيسبوك”،  وبدا جزء منه منسّقاً من حسابات وهمية متعددة. يقول: “هذا الاستهداف كان مهنياً بسبب آرائي الصحفية، وتطوّر إلى تهديدات مباشرة عبر الماسنجر، لكن لم يصل لمرحلة التأثير على حياتي الواقعية”.

بحسب تقرير United Nations Population Fund، يُستخدم مصطلح العنف ضدّ النساء عندما يستهدف هذا العنف النساء فقط، بينما يُستخدم مصطلح العنف الرقمي القائم على النوع الاجتماعي للإشارة إلى نوع يستهدف شرائح أوسع وينتهك الحقوق والحريات بناءً على النوع الاجتماعي أو بتأثير غير متناسب على الجنسين. علاوةً على ذلك، تنصّ المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّ “لكلّ فرد الحقّ في حريّة الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقّ حريّة اعتناق الآراء دون تدخّل، واستقاء المعلومات والأفكار وتلقّيها ونقلها من خلال أيّ وسيلة كانت دون اعتبار للحدود”، كما ينصّ القرار 59 للجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر عام 1946، وهو أول نصّ تناول الحقوق الإعلامية، على أنّ “حريّة الإعلام حقّ إنساني أساسيّ وملك لكلّ الحريّات التي كرسّت لها الأمم المتحدة”.

يضيف إسماعيل أنّ الهجوم ضدّه، والذي كان مقصوداً، دفعه في كثير من الأحيان للابتعاد عن طرح آرائه أو طروحاته الصحفية على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصّةً مع وجود العديد من الحسابات الوهمية، إضافةً إلى حسابات واقعية تتبنّى خطاب الكراهية والتمييز والإقصاء، وهذا أثّر على شعوره بالأمان بشكل ملحوظ، ويردف: “لكن، في المقابل، أدرك أهميّة الاستمرار في التعبير مع تعزيز إجراءات الحماية الشخصية وطريقة الطرح”.

القانون السوري والجرائم الإلكترونية

في عام 2022 صدر عن مجلس الشعب القانون رقم 20 الخاص بالجرائم الالكترونية لمتابعة الجرائم الإلكترونية والمعلوماتية، وتتراوح العقوبات التي أقرّها القانون من الغرامات المالية إلى السجن الذي قد يصل إلى 15 عاماً في بعض الحالات. يتطرّق القانون لعقوبات تطال من يرسل رسائل غير مرغوب فيها أو من ينتهك خصوصية الآخرين، بالإضافة لعقوبات على من يقوم بالقدح والذمّ الإلكتروني وجرائم المساس بالحشمة والحياء أو انتحال الحسابات الشخصية، إلا أنّ هذا القانون لم يُطبّق على أرض الواقع حتى اللحظة، في الوقت الذي تتزايد فيه الجرائم الإلكترونية وخطاب الكراهية والتحريض بأشكال مختلفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما قد يؤثّر على حياة الأشخاص وسلامتهم الشخصية.

اضطرت سمر إلى تغيير منزلها والتوقّف عن ارتياد الأماكن التي كانت جزءاً من حياتها اليوميّة. تحوّل العنف الرقمي ضدّها إلى تهديد واقعيّ اقتحم حياتها الخاصّة، وتركها في حالة خوف دائم. تقول إنّ ما تعرّضت له لم يكن مجرد “تنمّر إلكتروني”، بل حملة منظّمة غذّاها غياب الوعي وتأثير شخصيات فاعلة لا تتقبّل الاختلاف في الهويّة أو اللغة أو الرأي. الهدف كان واضحاً واضح: إسكاتها ودفعها للتوقّف عن العمل، لكنّ الأشدّ قسوة، كما تروي، هو أنّ النساء هنّ الأكثر عرضةً لهذا النوع من الهجمات بسبب سهولة استهدافهنّ في حياتهنّ الشخصية. “تعرّضتُ لإهانات طالت سمعتي وعائلتي، وألحقت بهم أذىً نفسيّاً كبيراً.. لثلاثة أيّام متواصلة لم أبدّل ملابسي، كنتُ أعيش في انتظار مداهمة أو هجوم على بيتي”.

هذا التقرير أعدّه الصحفي/ة ضمن مشروع ينفّذه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بدعم من منظمة اليونيسكو وبإشراف الأستاذة ميس قات، وهو يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته فقط. ونشر في موقع شبكة الصحافة الحرة (FPN) بتاريخ 22/11/2025

إن التسميات المستخدمة وطريقة عرض المواد الواردة في هذا المادة لا تعني إبداء أي رأي من جانب اليونسكو بشأن الوضع القانوني لأي بلد أو إقليم أو مدينة أو منطقة أو سلطاتها، أو بشأن ترسيم حدودها أو تخومها. ويُعدّ المؤلف/المؤلفون مسؤولون عن اختيار وعرض الحقائق الواردة في هذا المستند وعن الآراء المعرب عنها فيه، والتي لا تعكس بالضرورة آراء اليونسكو ولا تُلزم المنظمة.

The designations employed and the presentation of material throughout this [publication/book/report/article/video] do not imply the expression of any opinion whatsoever on the part of UNESCO concerning the legal status of any country, territory, city or area or of its authorities, or concerning the delimitation of its frontiers or boundaries. The author(s) are responsible for the choice and presentation of the facts contained in this document and for the opinions expressed therein, which are not necessarily those of UNESCO and do not commit the Organization.