دمشق – -القدس العربي- من أنور بدر: نستطيع القول أن إشكالية الإعلام السوري منذ البداية كانت تكمن في تبعيته للسلطة التنفيذية، ومن خلفها حزب البعث الذي رأى فيه أحد أدوات تبرير سياساته وتأبيد سلطته، حيث نصّت المادة (3) من قانون اتحاد الصحفيين في سوريا على التعريف التالي: -اتحاد الصحافيين تنظيم نقابي مهني يؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية ملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته-.
لذلك كانت المهمة الأولى بالنسبة إلى لجنة صياغة القانون الجديد للإعلام في سوريا أن تلحظ إحداث -مجلس وطني للإعلام- يكون مستقلاً عن السلطة التنفيذية، وإن لم ينص مشروع القانون المقترح على إلغاء وزارة الإعلام صراحة، غير أن نصّ المرسوم التشريعي رقم 108 للعام 2011 الخاص بقانون الإعلام الجديد والذي أصدره رئيس الجمهورية ونشرته وكالة سانا للأنباء بتاريخ 28/ 8/ 2011 فاجأ الجميع حين أكد أن مجلس الإعلام الوليد -يرتبط بمجلس الوزراء- مباشرة، كما جاء في المادة (19) التي عرفت -المجلس الوطني للإعلام- كالتالي:
-يحدث في الجمهورية العربية السورية مجلس يسمى -المجلس الوطني للإعلام -يتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري ويرتبط بمجلس الوزراء ويتولى تنظيم قطاع الإعلام طبقاً لأحكام هذا القانون-.
فأي إصلاح هذا الذي جعل من مجلس الوزر في علاقته بالإعلام خصما وحكما في آن معا!
وتأتي آلية تشكيل ذلك المجلس لتجعله تابعا للسلطة التنفيذية، حيث سبق لمشروع القانون أن حدد أعضاء -المجلس الوطني للإعلام- بأحد عشر عضواً، يعين رئيس الجمهورية ثلاثة منهم بمن فيهم الرئيس ونائبه، ويختار مجلس الشعب أربعة آخرين، ثم يكون على هؤلاء المعينين من قبل رئيس الجمهورية والمنتخبين من قبل مجلس الشعب التوافق على أسماء الأعضاء الأربعة الآخرين. لكن الفقرة (أ) من المادة (20) من القانون الصادر بمرسوم جمهوري تكتفي بتسعة أعضاء، دون تحديد آلية اختيارهم، إلا بعبارة عامة في الفقرة (ج) من المادة ذاتها تقول: يسمى رئيس وأعضاء المجلس بمرسوم تحدد فيه تعويضاتهم وذلك لولاية مدتها ثلاث سنوات قابلة للتجديد لمرة تالية واحدة.
حيث منح القانون في صيغته الأخيرة رئيس الجمهورية صلاحية تسمية كل الأعضاء، بعد أن كانت حصته في المشروع لا تتعدى ثلاثة من أصل أحد عشر عضواً.
المسألة الأهم بالمعنى الإجرائي تتعلق بالترخيص للوسائط الإعلامية، وقد فصلتها المادة (37):
أ- يخضع للترخيص وفق أحكام هذا القانون إصدار المطبوعات الدورية.
ب- تمنح الرخصة للمطبوعات الدورية بقرار من المجلس وذلك وفق الإجراءات الآتية..
1- يبت المجلس بطلب الترخيص المقدم إليه خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوماً من تاريخ تقديمه مستوفياً جميع الشروط المطلوبة وفق أحكام هذا القانون وعلى المجلس إبلاغ طالب الترخيص بقراره خلال عشرة أيام.
2- إذا صدر قرار المجلس برفض الترخيص فيجب أن يكون مسبباً.
3- يجوز في حالة رفض الترخيص تقديم طلب جديد إلى المجلس ويطبق على هذا الطلب الجديد أحكام البندين 1 و2 من هذه الفقرة.
ج- يحق لمن رفض طلبه بالترخيص اللجوء إلى محكمة القضاء الإداري للطعن في قرار الرفض.
د- لا يصبح الترخيص المشار إليه في هذه المادة ساري المفعول إلا بعد تصديقه من مجلس الوزراء.
وفي هذه المادة تناقض كبير بين صلاحيات مجلس الإعلام وصلاحيات مجلس الوزراء، حيث حدد النص فيما يتعلق بالمجلس الإعلامي فترة زمنية للرد على الطلب، وطالب بتعليل القرار في حال الرفض، كما منح أصحاب الطلب فرصة ثانية لإعادة تقديم طلبهم، ومنحهم فوق ذلك حق اللجوء للقضاء الإداري للطعن في قرار الرفض. لكن الفقرة (د) من هذه المادة تنصّ صراحة أن الترخيص من قبل -المجلس الوطني للإعلام- لا يصبح ساري المفعول إلا بعد تصديقه من مجلس الوزراء. وهنا سكت النص عن أي حقوق لأصحاب الطلب في حال وافق المجلس الإعلامي عليه فيما رفض مجلس الوزراء تصديقه. هل يحق لهم تكرار الطلب ثانية؟ وهل يحق لهم الطن في عدم تصديق مجلس الوزراء؟ وهل من دور للقضاء الإداري بهذا الخصوص؟.
كما أن هذه الصيغة المتعلقة بالمطبوعات تنطبق أيضا على ترخيص كل من الإعلام المسموع والمرئي، ووسائل التواصل على الشبكة، ووكالات الأنباء، وصولاً إلى شركات الخدمات الإعلامية، بحيث أي موافقة من قبل -المجلس الوطني للإعلام- على أي من هذه الوسائل الإعلامية، فلا يصبح أي ترخيص ساري المفعول إلا بعد تصديقه من قبل مجلس الوزراء، بما يتضمن إمكانية عدم مصادقته، وبالتالي لن تكون أمام طالبي الترخيص أي مجال للاعتراض.
بعيدا عن إشكالية الترخيص، نجد أن المادة (22) المتعلقة بصلاحيات ومهام المجلس قد حُذف منها البند رقم (9) المتعلقة ب- وضع ميثاق شرف لمهنة الإعلام والصحافة، بالتنسيق مع الإعلاميين والمنظّمات التي تمثّلهم. واستعيض عنه بالفقرة (5) من المادة (4) التي تقول – احترام ميثاق الشرف الصحفي الصادر عن اتحاد الصحفيين. والذي يعتبر قاصرا بنظر أغلب الإعلاميين السورين الذين يشكون من كثافة اللغة الأيديولوجية فيه على حساب اللغة المهنية.
وهذا يقودنا للحديث عن اللغة الإنشائية والعمومية في صياغة هذا القانون، والتي تحتمل الكثير من التأويلات المؤذية للإعلام وللإعلاميين أيضا. فالفصل الثاني للقانون الذي يتحدث عن المبادئ الأساسية يغص بتلك الصياغات، فالمادة (2) من هذا القانون تقيد حرية الإعلام بالدستور والقانون، لكن المادة (3) منه تسند ممارسة العمل الإعلامي إلى ثلاث قواعد، هي: حرية التعبير المكفولة بالدستور وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإلى حق المواطن في الحصول على المعلومة، وإلى القيم الوطنية والقومية للمجتمع السوري والمسؤولية في نشر المعرفة والتعبير عن مصالح الشعب وحماية الهوية الوطنية. وهذه الفقرة الأخيرة تحتمل الكثير من التأويلات للقيم الوطنية والقومية ومصالح الشعب وهويته الوطنية، خاصة في مجتمع كسوريا تتعدد فيه الأثنيات القومية.
الفصل الثالث الذي يتحدث عن الحقوق والواجبات يعدد في المواد من (6) إلى (11) الكثير من الحقوق لكنه في المادة (12): يحظر على الوسائل الإعلامية نشر..كل ما من شأنه المساس بالوحدة الوطنية والأمن الوطني أو الإساءة إلى الديانات السماوية والمعتقدات الدينية أو إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية. أو التحريض على ارتكاب الجرائم وأعمال العنف والإرهاب أو التحريض على الكراهية والعنصرية. وكذلك الأخبار والمعلومات المتعلقة بالجيش والقوات المسلحة باستثناء ما يصدر عن الجيش والقوات المسلحة ويسمح بنشره. وكل ما يمس برموز الدولة.
وقد لا تكون الإشكالية في هذه المحظورات، لكن الإشكالية الحقيقية في إمكانيات تأويل وتفسير أو تحميل هذه المحظورات، إذ يمكن تفسير أي إشارة للأوضاع الراهنة باعتبارها مساسا بالوحدة الوطنية أو تحريضا على الكراهية أو مساّ برموز الدولة، خاصة وأن المادة (79) من هذا القانون تنصّ على:
– يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في القوانين النافذة كل من يخالف أحكام المادة (12) من هذا القانون إضافة إلى إيقاف الوسيلة الإعلامية عن النشر أو البث لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر في المرة الأولى وإلغاء الترخيص في حال التكرار. وأعتقد أن عقوبة إلغاء الترخيص أسوأ بكثير من عقوبة سجن الصحفي، خاصة وأن القوانين النافذة في الكثير من المحظورات التي تشملها المادة (12) تتضمن السجن، وبالتالي يصبح الإعلامي أمام عقوبتين كل منهما تنتمي لقانون منفصل عن الآخر. إضافة للغرامات المالية التي تبدأ من 10 آلاف ليرة وتصل إلى مليون ليرة سورية، وهو رقم كبير بالنسبة إلى دخل الصحفيين في سوريا.
وهذا غيض من فيض كما يقولون، فليس المهم ما يتبجح به إعلاميو النظام من كون القانون الجديد ألغى عقوبة سجن الصحفي لنشر آرائه الخاصة، بقدر ما كان مهما فك الارتباط بين الإعلام وبين السلطة التنفيذية وصولاً إلى إلغاء وزارة الإعلام، وتحريره من كل إجراءات الترخيص أولاً والرقابة تالياً. فالأصل في الأشياء هي الحرية، والتي لا يحدها إلا الدستور والقوانين الناظمة للمجتمع والعلاقات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.