أريد أن أجد أخي…
(رحلة قصي)
قصي، أخي الحبيب…
شاب فلسطيني سوري حمل في قلبه حلمًا بسيطًا: أن يصنع مستقبلًا آمنًا وعادلًا لابنته وزوجته. كان الحلم صادقاً، لكنه اشتعل أكثر بعد أن فقد ابنه الأول خلال جائحة كورونا. ذلك الفقد كسر شيئاً فيه، لكنه في الوقت نفسه زرع بداخله إصراراً على حياةٍ جديدة لا مكان فيها للخوف أو الحاجة.
في إسطنبول، كان قصي يعمل منذ الصباح حتى المساء في توصيل طلبات الطعام. بالكاد يغطي أجره إيجار البيت وقوت اليوم. كان يرى ابنته تكبر أمامه بلا ضمان لغدٍ أفضل، فشعر أن الأفق ضاق حتى انعدم، وقرّر أن يخاطر في سبيل حلمٍ واحد: أن تعيش ابنته حياة كريمة في أوروبا.
محاولته الأولى كانت نهاية عام 2021 عبر المطار. أُوقف قبل أن يصعد الطائرة وسُجن أربعين يوماً. كنت أنا من وكل له المحامي حينها. وبعد تلك التجربة، بدأ فصل جديد من المعاناة — محاولات برّية قاسية لعبور الحدود نحو اليونان.
تسع محاولات…
تسع ليالٍ من الخوف والإهانة والضرب.
في كل مرة، كان حرس الحدود الأتراك يسلمونه لمجموعات “مرتزقة” في الجهة اليونانية. يُسلب ماله وهاتفه، يُجرد من ملابسه، ويُعاد بملابسه الداخلية إلى تركيا. في المحاولة الثامنة ضُرب على رأسه بعنف حتى نُقل إلى المستشفى. ومع ذلك، لم يتراجع. كان يقول لي دائماً: “ما في طريق للكرامة غير الصبر.”
في مساء 25 حزيران/يونيو 2022، أُمسك بقصي للمرة العاشرة. عُري وضُرب وأُعيد إلى تركيا. وفي اليوم التالي، أجبرتهم الجندرمة التركية على ركوب قارب خشبي مكتظ، وقالوا لهم صراحة:
“يجب أن تعودوا إلى اليونان وتذهبوا إلى أوروبا.”
تحرك القارب وسط المطر، فوق نهر إيفروس، بأكثر من طاقته. لم يقطع سوى أمتار حتى انقلب. قصي لم يكن يجيد السباحة…
أحد الناجين — يعيش اليوم في ألمانيا — أخبرني أن الجندرمة أنقذت الصياد التركي فقط، وتركت المهاجرين يغرقون. نجا ثمانية وغرق ثلاثة… وكان قصي واحداً منهم.
منذ ذلك اليوم، أعيش على وقع صدمةٍ لا تنتهي. في الوقت الذي كنت أنتقل فيه إلى منزلي الجديد في هولندا — البيت الذي حلم به قصي — كنت أعيش كابوس غيابه.
كيف أبدأ حياة جديدة وأنا أعرف أن أخي غرق بحثاً عن حياةٍ مثلها؟
حتى بناتي الصغيرات ما زلن يرونه في أحلامهن.
يستيقظن ويقلن لي: “يا بابا، شفنا عمو قصي بالمنام.”
كلماتهن تحرك في داخلي كل شيء دفنته مؤقتاً لأستطيع المتابعة.
أمي تبكي كلما ذُكر اسمه.
وأبي المريض ما زال يردد: “ابني حيّ.”
لم أجرؤ على إخباره بالحقيقة كاملة. يواسي نفسه باحتمالات واهية — يقول ربما فقد الذاكرة أو تم ترحيله. ثم يكرر جملة تطاردني كل يوم:
“ما بسامحك إذا قصّرت في البحث عنه.”
بحثت في كل مكان. وكلت محامية يونانية. تحدثت إلى طبيب في مستشفى ألكسندروبوليس الذي أخبرني أنهم يتلقون جثثاً مجهولة، أحياناً بملابس داخلية فقط. طلبوا عينة DNA، لكن الإجراءات معقدة ومكلفة. صعبة عليّ، ومستحيلة على عائلتي في سوريا.
أحياناً أفتح رسائله القديمة على الماسنجر، أسمع صوته كأنه لم يغادر بعد.
أتحدث مع أخي الأصغر ونقول: “يا ريت ما طلع… يا ريت بقي بتركيا.”
كل ما أريده الآن أن أفي بوعدي لأبي… أن أجد قصي.
أريد نهاية لهذا الكابوس.
أريد أن أؤمن لابنته ووالديه قبراً يعرفون مكانه.
أريد أن أجد أخي.
هذه القصة حقيقية ومبنية على شهادة موثّقة من قبل “مشروع توثيق الانتهاكات” في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
هذا النشاط يأتي في إطار مشروع “دعم عائلات السوريين المفقودين على طرق الهجرة في حقهم في معرفة الحقيقة” المموّل من مؤسسة الأصفري.




