أخ يبحث عن أخيه…(سوسر وضياء)
أمام شاشة هاتفي المحمول، جلستُ بترقّبٍ وخوف، أتنقّل بين مجموعات “فيسبوك” و”واتساب” التي تتداول أخبار القوارب والمهاجرين، أبحث عن أيّ خبرٍ يشير إلى مصير القارب الذي أبحر على متنه أخي ضياء في صيف عام 2014.
كان قد غادر من لبنان إلى الجزائر، ثم إلى ليبيا، على أمل أن يجد طريقاً آمناً نحو أوروبا.
كانت آخر مكالمة بيننا في ذلك الصيف، قبل أن يركب القارب مباشرة. قال لي بصوتٍ حاول أن يخفي فيه خوفه:
“ما بقى فيي أتحمّل، بدي أوصل لمكان آمن، ما بدي بنتي تكبر بخوف مثلنا.”
ومنذ تلك المكالمة، لم أسمع صوته أبداً.
كان ضياء متزوّجاً وله طفلة لم تكمل عامها الأول حين رحل. عمل مصوّراً، وعُرف بابتسامته الهادئة وعينيه الخضراوين.
كان طويل القامة نسبيًا (نحو 175 سم)، بشعرٍ بني وبشرةٍ بيضاء، ولم يكن في جسده أيّ علامة مميزة سوى ضرسٍ مخلوع.
منذ ذلك الصيف، قلبي ما زال معلّقًا هناك… في المكان الذي غاب فيه ضياء — في البحر.
كان يبحث عن مكانٍ يستطيع أن يرى فيه مستقبلاً لعائلته وطفلته، فرمى نفسه في البحر من أجل ذلك.
في 24 آب/أغسطس 2014، أبحر القارب من مدينة زوارة الليبية. كان كبيراً، من ثلاثة طوابق، ويحمل أكثر من 700 مهاجر من جنسيات مختلفة: سوريين وفلسطينيين وأفارقة.
لكن الرحلة التي كان يُفترض أن تنتهي بشاطئٍ أوروبي، انتهت بفقدان مئات الأرواح.
يُقدَّر عدد المفقودين بين 250 و400 شخص. لم نعرف أين غرق القارب بالضبط — هل في المياه الإقليمية الإيطالية أم الدولية؟ لم نعرف من كان المهرّب، ولا كيف كانت الساعات الأخيرة هناك.
أُبلغنا لاحقاً أن ضياء من بين المفقودين. لم يُعثر على جثمانه، لكننا استخرجنا شهادة وفاة رسمية.
ورغم مرور كل هذه السنوات، ما تزال حالتُه القانونية “مفقوداً”، وما تزال حالتي أنا “أخ يبحث عن أخيه”.
لم يقم أهلي بأيّ إجراءات قانونية للبحث، لا لأننا لم نعرف من أين نبدأ فحسب، بل لأن الأمل كان أقوى من الأوراق.
أحياناً أنظر إلى صورته الحديثة، بالكنزة الزهرية والبنطال الرمادي، وأتخيله واقفاً على سطح القارب، ينظر إلى البحر ويفكر بابنته.
وأحياناً أحاول تخيّل لحظاته الأخيرة — الخوف الذي اعتراه، محاولات النجاة، وآخر كلماته.
أحياناً أصدق أنه ما زال حيّاً في مكانٍ ما، وأحياناً أستسلم لفكرة أن البحر أخذه إلى مكانٍ لا تدركه العيون، لكنه لن يُمحى من الذاكرة ولا من قلوبنا
ضياء ليس رقماً في قائمة المفقودين —
هو أخي.




